سوريا كرمة قد نمت قدماً أمام وجه الشمس
وأعطت عنباً لذيذاً تمجدت بطعمه الآلهة
وخمراً سحرياً شربت منه الإنسانية فسكرت
ولم تصحُ بعد من نشوتها.
ما سبق هو بعضٌ مما كتبه الشاعر والأديب اللبنانى الكبير "جبران خليل جبران" رداً على رسالة أرسلتها له عام 1910 "الفيكونتس سيسيليا إف لوتنبرغ"، المستشرقة الأوروبية المعروفة بكتاباتها عن البلدان العربية ولاسيما سوريا، تلك المستشرقة التى كان بينه وبينها صلة أدبية توطَّدت عن طريق المراسلة.
ربما كتب "جبران" تلك الأبيات وقت أن كانت سوريا "أم العروبة" وقلمها النابض بالحيوية، وهى بالأساس مهد الحضارة وأمها، وربما لهذه الأسباب أيضا ظلت سوريا رمزا للعطاء والسحر والكرم إلى وقت قريب، حتى صار ما صار عندما خرجت من بوابة التاريخ قبل 7 سنوات، لذا فالعين تدمع والقلب يخشع لأن صلوات الجنازة ستقام قريبا، بعدما ماتت أمة العرب، نعم ماتت عندما أصبحت سوريا اليوم تتعرض ليس لعدوان ثلاثى ولا لعدوان رباعى ولا لعدوان خماسى، بل تتعرض لعدوان عالمى، وها هى الآن قد اكتملت بنود المؤامرة بقيام عدوان ثلاثى جديد "أمريكا - فرنسا - إسرائيل"، وكأن شبح العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 يلوح فى الأفق من جديد بعد 59 عاما من زوال آثاره البغيضة.
ظلت وتيرة الاحتمالات تزيد كل ساعة خلال الأيام الماضية بشأن ضربة عسكرية أمريكية تدعمها كل من فرنسا وإسرائيل ضد النظام السورى، وذلك فى أعقاب الهجوم الذى تعرضت له مدينة "دوما" السورية، والذى قيل إنه تم بأسلحة كيميائية، واتهمت واشنطن النظام بتنفيذه، ونقلت وكالة "رويترز" عبر إحدى تقاريرها المشبوهة عن مسؤولين أمريكيين قولهم: إن الولايات المتحدة تدرس ردا عسكريا جماعيا مع حلفائها الغربيين، فى وقت قال فيه موقع "روسيا اليوم" الإخبارى إن الجانب الروسى أكد صعوبة التكهن بطبيعة رد الكرملين على أى تحرك غربى، مشيرا إلى أن رئاسة الأركان الروسية، لوحت بالتصدى والرد بشكل حاسم على أى تهديد لحياة العسكريين الروس.
وما زاد من احتمالية تلك الضربة أن هذا كله يأتى فى نفس الوقت الذى قالت فيه مندوبة الولايات المتحدة فى مجلس الأمن "نيكى هايلى"، إن بلادها سترد على الهجوم الكيميائى فى "دوما"، مهما كان موقف مجلس الأمن، بينما قالت "رويترز" فى تقرير يحض على الكراهية: إن المسؤولين الأمريكيين الذين تحدثت معهم، أقروا بأن الخيارات العسكرية قيد التطوير، فى حين رفض البيت الأبيض ووزارتا الدفاع و الخارجية التعليق على طبيعة الخيارات، فبحسب واشنطن فإن الدافع وراء تحركاتها وحلفائها هو حقوق الإنسان والدفاع عن المدنيين فى سوريا، بينما يشكك النظام السورى وحلفاؤه على الجانب الآخر فيما تقوله واشنطن، ويعتبرون أن سعيها لتوجيه ضربة عسكرية لسوريا، إنما يستهدف بالأساس توفير الدعم لحليفتها إسرائيل وتحييد إيران.
والواقع أن استخدام واشنطن لقضية حقوق الإنسان هو تعبير عن إفلاسها وعجزها عن فرض رؤيتها الجديدة لصياغة منطقة الشرق الأوسط، خاصة بعد القمة الأخيرة التى ضمت روسيا وإيران وتركيا، ومن ثم فهى لم يتبق لها إلا المتاجرة بقضية حقوق الإنسان والمدنيين، وربما هى تفعل ذلك من أجل لفت الانتباه وفتح باب جديد للتفاوض معها وليس من أجل عمل عسكرى كما يقال، ولعل ما يفعله "ترامب" هو نفس فعله "بوش الإبن" قبل 15 عاما، كما بدا لنا من خلال التصعيد الإرهابى الأمريكى الأخير بذرائع واهية فى محاولة تكرار مسلسل غزو العراق فى سوريا نتيجة الإخفاق فى الميدان، وكذلك الفشل الأمريكى فى استغلال المحافل الدولية، فالأصدقاء باتوا على قناعة بسياسة النفاق الأمريكية ولذلك يتصدون لمحاولة شرعنة عدوانهم على سوريا، ما يعنى أن الإخفاق والفشل سيكون حليف المعتدين والمتآمرين بإذن الله.
أمريكا حاولت من قبل تخريب " مؤتمر سوتشى للحوار الشّعبى السورى" وفشلت، وبذلت جهودا كبيرة لمنع تقدم قوات الجيش السورى فى إدلب، وفشلت، وحاولت أن تمنع الصدام بين حليفها التركى القديم، والكردى الجديد وفشلت، ولم يبق أمامها الآن غير أن تحاول إثبات وجودها، وتحويل الأنظار عن هزائمها السياسية والعسكريّة بضربة جديدة فى وستفشل أيضا بإذن الله لو حاولنا التصدى لهذا العدوان الثلاثى الجديد على سوريا، والذى لا يشكل خطرا على دمشق فى حد ذاتها بل إنه يحمل كثيرا من المخاطر على الأمة العربية كلها ، ومن هنا أوضح أننى لست من الذين يفسرون ما يحدث على أرض سوريا بأنها وقائع ثورية فى حد ذاتها بقدر ما هى حرب إرهابية تخوضها جماعات مسلحة من كل مكان فى الدنيا، ولا أعتقد أن هناك عاقلا واحدا على وجه الكرة الأرضية يستطيع تفسير ما يحدث على أنه ثورة ، فهل من قبيل الثورة أن تأتى جماعات إرهابية غريبة عن سوريا لتلقى بحمم من النار على رءوس الشعب السورى ثم ينتظرون منا أن نعترف بأنها ثورة، ظنى إننا لو اعترفنا بأن ما يحدث فى سوريا ثورة فإن ذلك سيفتح أبواب جهنم على منطقتنا ، بل إن هذا يعد اعترافا منا بأن مشاركة سوريين وباكستانيين وفلسطينيين فى الهجوم على أهداف مصرية هو من قبيل الثورة الإسلامية التى تروج لها جماعة الإخوان الإرهابية .
ومن هذا المنطلق ، فإن العدوان الثلاثى الحالى على سوريا هو عدوان على الأمة العربية بوجه عام وعلى مصر بوجه خاص، يستلزم منا أن نقاومه بكل ما أوتينا من قوة وحتى لا نبكى على اللبن المسكوب، فاليوم سوريا وغدا مصر والسعودية وكل التراب العربي، والتاريخ بالتاريخ يذكر، فلم يكن يوم العدوان الثلاثى على مصر مجرد يوم عادى فى تاريخ سوريا، ولم يكن صعباً فى مواجهة العدوان أن ترى بلداً كسوريا انخرط بشعبه وجيشه، برجاله ونسائه فى مقاومة العدوان الثلاثى على مصر، كما كانت عملية الضابط البحار السورى ابن اللاذقية البطل "جول جمال" فى الدفاع عن مصر تأكيداً على أن معركة مصر هى معركة سوريا بكل مكوناتها، وامتداداً لموقف كل رجالات ونساء سوريا تجاه كل الدول العربية.
لقد قامت سوريا - آنذاك - عن بكرة أبيها لنصرة مصر، فحين أعلن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس، انعقد المجلس النيابى السورى فوراً وقرر تأييد مصر فى تأميمها لقناة السويس والوقوف إلى جانبها ضد أى عدوان محتمل عليها، وتشكلت الهيئة العربية السورية لنصرة مصر، شاركت فيها جميع الأحزاب السورية وخرج الشعب العربى فى سوريا بمدنها وأريافها ليشترك فى مهرجانات يوم مصر، وقد شكلت لجان فرعية فى جميع المحافظات للهيئة العربية السورية لنصرة مصر، وتهافت الناس على مراكز التطوع نساءً ورجالاً للتدرب على حمل السلاح للدفاع عن مصر.
وجدير بالذكر هنا أن نذكر الموقف الشجاع للمربية السورية الكبيرة "نجاح ساعاتي"، والتى كانت من النساء اللواتى تطوعن للتدريب على السلاح عام 1956 وهى حامل، وكان نتيجة ذلك أن أجهضت، ونجاح ساعاتى أصبحت فيما بعد عضو المجلس الوطنى للثورة (البرلمان) عام 1965، لقد كان لموقفها البطولى ردة فعل قوية وغاضبة بحيث عمت النقمة الشعبية فى سوريا ما دعا الشعب السورى الثائر لنصرة مصر فألقيت القنابل على القنصلية الفرنسية فى دمشق، وحلب، وهوجمت المؤسسات الثقافية الفرنسية والبريطانية، و لكن الأهم من ذلك كان نسف أنابيب البترول فى سوريا يوم 2 نوفمبر1956، والعائدة لشركة "أى بى سي" البريطانية، فى ثلاث محطات للضخ، وامتناع العمال السوريين عن إفراغ السفن القادمة من فرنسا وبريطانيا إلى الموانئ السورية.
فكما هو معروف إنه فى الخمسينيات من القرن الماضى كان يمر من سوريا خطان لنقل البترول أحدهما للبترول العراقى ويمر من وسط سوريا ويصب فى البحر الأبيض المتوسط عند ميناء بانياس على الساحل السوري، والثانى ويسمى خط "التابلاين" ينقل البترول من الخليج العربى، ويمر فى الأردن وسوريا ثم يصب فى ميناء طرابلس على البحر الأبيض المتوسط، وحين امتدت يد الشر لمصر الشقيقة أثناء العدوان الثلاثى 1956م قام العمال السوريون بنسف خط أنابيب البترول الذى يمر عبر سوريا حاملاً البترول إلى أوروبا، وقد اتهمت الأوساط البريطانية يومذاك الجيش السورى بأنه هو الذى قام بعملية التخريب.
أيها المصريون والعرب، سوريا اليوم تتعرض لعدوان عالمى بشع فى آلته العسكرية الباطشة، فطائرات العدوان اليوم ليست كطائرات الأمس من الجيل الأول، وأسلحة اليوم المحرمه علينا والمحللة عليهم ليست كأسلحة الأمس، وإجرام اليوم بأساليبه القذرة ليس كإجرام الأمس، كما أن أعداد شهداء اليوم تفوق أعداد الأمس بمئات المرات، ودمار اليوم تفوق آثاره آلاف المرات عن دمار الأمس، مهجرو اليوم بالملايين، بينما لم يهاجر مصرى واحد وطنه يوم الاعتداء الثلاثى عليه، لذا فالشعب العربى السورى لايحتاج فى أزمته الحالية لمكافأة منكم ولن يستجديها منكم، بل هو يحذركم إن بقيتم نياما فالمؤامرة العالمية قادمة عليكم لا محالة، وستأتى على الخضر واليابس فى هذه الأمة.
فلو استطاع المثلث العدوانى مباغتة النظام السورى الآن، وإن حصل أيضا ونفذوا جريمتهم، فإن القوى الناهضة ستظهر معارضتها للعدوان بصورة جلية، فضلاً على أن إيران وحزب الله والمقاومة الفلسطينية لن يقفوا بموقع المتفرجين، وبالتالى سرعان ما ستمتد إقليمياً إلى أبعد من حدود سوريا، وتُفتح جبهات بلاد الشام والعراق، إن تم تحييد مصر!. وستدخل الصين كطرف معنى لوقف إطلاق النار، وظنى عندئذ أنه ربما هنالك احتمالية فى أن تخرج سوريا والمعادلة الجديدة منتصرة من معركة الصراع معها وليس عليها، ما سيترتب على نتائج المعركة أمور تتشابه أيضا بما حدث بعد انتصار مصر، وستكون سوريا أول دولة عربية تلتحق بقطار المعادلة الجديدة..ربما.
ومع كل ما مضى تبقى المخاوف واردة فى قلب اللعبة الخطرة، فعلى مايبدو أن "عرق" سوريا المعتق قد اختلط بماء السياسة الدولية فشربت منه واشنطن خمراً سحرياً فأسكرها وحلفائها بعيدا عن الإنسانية التى قصدها "جبران خليل جبران" فى بداية المقال، فها هو الرئيس الأمريكى يحاول الخروج من مشاكل داخلية فى بلاده يتعرض لها إلى القيام بعملية عسكرية خارجية، ليذكرنا بالرئيس الأمريكى السابق "باراك أوباما" عندما حشد القوات مقابل الساحل السوري، وقال إن هذه الضربة ستكون محدودة وسريعة، وأخشى ما أخشاه على العرب أن يتأخروا - كالعادة - على طاولة القمة العربية المقبلة فى الدمام فى استصدار قررات دعم لسوريا التى هى قلب الأمه العربية، عندئذ سوف تجدون أنفسكم تلملمون بقايا بيوتكم والفزع فى وجوهوكم، والدماء على صدوركم وعلى بقايا أطفالكم وانتم تحملونهم إلى مثواهم الأخير، ومن بقى حيّا منهم فستحملونهم مع بقايا أسركم تتراكضون بهم الى قارب مهترئ لتعبروا بأنفسكم وبأهلكم وأطفالكم إلى ضفة آمنه لتجدوا انفسكم فى قاع البحار.. يبقى على الأمة العربية السلام.