أشعر بالحزن كلما مات شاعر، وأحس بأن دائرة الجدب تتسع فى العالم، وأشعر بالحزن أكثر كلما مات شاعر صعيدى، وذلك ليس من باب «قبلى» لكن لإدراكى التام بأن هذه البقعة المهمة من العالم فى أشد الحاجة إلى الفن وأثره.
مات الشاعر الجميل عبدالناصر علام الذى يمثل لى حالة خاصة، على المستوى الشعرى وعلى المستوى الإنسانى، فيما يتعلق بالشعر لأن قصيدته كانت مميزة استمعت إليه فى فترة من شبابى فاستقر فى وجدانى أن القصيدة فى حاجة إلى الجمهور «نوعا ما»، كما أنها فى حاجة أشد إلى الفن والإيقاع، وأدركت أن اللغاريتمات التى تنشد ذاتها ينقصها شىء ضرورى، وأن المباشرة التى تثير العاطفة فقط ينقصها شىء ضرورى أيضا.
أما الجانب الإنسانى وهو الأكثر تأثيرا فى علاقتى بعبدالناصر علام، هو أننى شاهدته فى زمن «فتوته» شاب لا يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره ممتلئ بالحماس وواثق من قصيدته «شفت عساكر دورية» يجلس على المنصة المعدة للشعراء فى كلية الزراعة بجامعة أسيوط يصول ويجول ويتجاوب مع الجمهور، يقول ويعيد فى حماسة ملفتة، ثم رأيته بعد ذلك وقد ترك المرض أثره على ملامحه فأصابنى الخوف، بالنسبة لى كأنه الأمس، فكيف تبدل الحال بالشاعر الجميل، وكيف استطاع المرض أن يفعل كل هذا.
مات عبدالناصر علام بعد صراع طال، قاتل فيه المرض بكل ما أوتى من قوة، مات فى شهر أبريل، ربيع الشعراء، فى الشهر نفسه الذى ولد ومات فيه أستاذه الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى، ومات فيه أيضا الشاعر الكبير صلاح جاهين، مات ولحق بالكبار فى فردوسهم وترك الصعيد يعانى ويعانى الجوع إلى الفن.
بالطبع لن يموت الشعراء فى الصعيد، لكن الذى أخشاه عليهم أن تموت الخصوصية فى قصيدتهم ويصبح ما يكتبونه متشابها مع ما يكتبه الآخرون فى الشمال والجنوب، وهو ما تنبه له جيل الكتاب الكبار فى الصعيد الذين كانوا يعرفون دورهم جيدا، ويرون أن الأمر يتجاوز فكرة الكتابة أو التعبير عن النفس إلى التعبير عن الذات الجمعية، ولنا فى عبدالرحمن الأبنودى أسوة حسنة.
بالطبع علينا أن ندرك أن العولمة بكل شرورها تطارد الصعيد وتدفعه لتبنى أفكار عامة تصلح للجميع وفى الوقت نفسه لا تصلح لأحد، لذا فإن مقاومة ذلك يكون بالفن وبالمحافظة على تراث السابقين الذين قالوا كلمتهم ومضوا وعلى رأسهم عبدالناصر علام.