كل الهجوم وتبادل طرد الدبلوماسيين وإغلاق القنصليات بين روسيا من جهة وأمريكا وأوروبا من جهة أخرى، لا يتوقع أن يتطور إلى حرب ساخنة. ويبدو مثيرا أن وراء كل هذا الصراع البارد الساخن محاولة اغتيال جاسوس سابق. يبدو سيرجى سكريبال مجرد حجة أحيت صراعا ظل مكتوما لسنوات، وتعكس الحرب التجارية والاقتصادية التى تتم بشكل مكتوم طوال سنوات.
هذه الحرب الباردة تصاعدت فى بداية الفترة الرئاسية الجديدة لفلاديمير بوتين، استمرارا لحرب سابقة تتواصل، ويمثل حادث الجاسوس أحد فصولها.. أدخنة تتصاعد لكنها تظل فى سياق حرب باردة لا يتوقع أن تصل إلى صدام عسكرى، الجنون محجوز كله للمنطقة العربية البائسة التى تغرق طوال الوقت فى حروب طائفية وعرقية تتفاعل يوميا لتنتج المزيد من الجنون.
السلطات الروسية أمرت العديد من الدبلوماسيين الأوروبيين، بمغادرة أراضيها، تطبيقا لمبدأ المعاملة بالمثل، من بينهم إيطاليا وأوكرانيا وأيرلندا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وكندا، وغيرها من الدول، وردت روسيا على أمريكا بطرد 60 دبلوماسيا أمريكيا من الأراضى الروسية، وإغلاق القنصلية الأمريكية فى سان بطرسبرج، ردا على قرار واشنطن بإغلاق قنصلية روسيا فى سياتل، وطرد 60 دبلوماسيا روسيا.
الناطق باسم الكرملين ديمترى بيسكوف، قال إن روسيا ليست هى من بادرت إلى شن حرب دبلوماسية، لكن الخارجية الأمريكية ترى أن رد فعل موسكو مبالغا فيه، ومرحلة جديدة من تدهور العلاقات بين واشنطن وموسكو. الكرملين أعلن أن الرئيس فلاديمير بوتين كان يؤيد إقامة علاقات طيبة مع جميع البلدان، بما فيها الولايات المتحدة، لكن طرد الدبلوماسيين الروس كان فعلا غير مشروع.
اللافت فى كل هذا التصعيد أنه لم يشهد أى تلويح باستخدام القوة أو التدخل العسكرى، على العكس من استمرار الصراعات الساخنة فى الشرق الأوسط، مع وجود دلالات أمريكية على الخروج من سوريا وتركها للآخرين، ففى خطوة مفاجئة أعلن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، الخميس الماضى فى أوهايو، أن بلاده ستنسحب قريبا من سوريا وتترك الآخرين يهتمون بالأمر. وقال: «نحن هناك للتخلص من داعش، والعودة إلى المنزل، حققنا هدفنا إلى حد كبير والولايات المتحدة فى حاجة إلى الدفاع عن حدودها وإعادة بناء البنية التحتية المتهالكة». بدا إعلان ترامب الانسحاب من سوريا مفاجئا وحتى الخارجية الأمريكية نفت علمها بقرار سحب القوات من سوريا.
ويستعد الرئيس الأمريكى دونالد ترامب للقاء زعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون، فى مايو المقبل، وأعلن كيم جونج أون أثناء زيارته القصيرة للصين عن نيته نزع السلاح النووى مقابل السلام، واعتبر المحللون الأمريكيون أن كيم جونج أون كان لاعبا ذكيا بشكل مثير للدهشة، وهو ما ينفى الصورة الكاريكاتورية التى اجتهد الإعلام الأمريكى فى تسويقها للعالم، لم يكن جونج أون هو الرئيس المتفرغ لقتل معاونيه بالصواريخ والكلاب المسعورة.
وفى حال نجاح المفاوضات فإن كوريا الشمالية سوف تخرج فائزة من الصراع، بينما تربح كوريا الجنوبية مزيدا من الهدوء حتى لو كانت سوف تدفع لجارتها الشمالية، فقد جاءت التسوية المقترحة بعد تصعيد وصل إلى حد التهديد النووى المباشر من كوريا الشمالية لأمريكا واليابان وكوريا الجنوبية، وبعد وصول التصعيد إلى أقصاه ألقى كيم جونج أون مبادرته بالاشتراك مع رئيس كوريا الجنوبية مون جاى إن، ولم تكن الصين بعيدة عن المساعى السرية التى قادت إلى اللقاء.
الولايات المتحدة وهى تدخل الصراع الدبلوماسى مع روسيا بجانب الغرب، تسعى لتخفيف وقع القرارات الدبلوماسية وتعاتب الروس، وترد موسكو بعتاب مقابل متهمة بريطانيا بالتصعيد المبالغ فيه، وتوريط أوروبا فى أزمة يصعب تقديم الأدلة فيها على تورط موسكو فى محاولة اغتيال الجاسوس السابق، لأن واشنطن تعرف مدى تأثير روسيا كلاعب رئيسى فى سوريا التى أعلن ترامب الانسحاب منها وتركها لأطراف أخرى، وفى نفس الوقت فإن روسيا ليست بعيدة عن القضية الكورية واللقاء المرتقب بين ترامب وجونج أون.
الولايات المتحدة بالطبع وهى تعلن الانسحاب من سوريا تضع الأمر فى يد روسيا وتركيا وإيران، لهذا بالرغم من التصعيد الغربى مع روسيا فى قضية الجاسوس السابق سكريبال، تستعد للقاء مايو بين ترامب وجونج أون، ويحسب النجاح فى تصفية التوتر الكورى لترامب، ويمنحه شعبية.
لكن التهدئة على الجبهة الكورية يقابلها تصعيد على الجبهة الإيرانية وعلى ترامب أن يقرر خلال قبل 12 مايو المقبل مصير الاتفاق النووى بين إيران ومجموعة (خمسة +واحد) فى عام 2015، ويطالب ترامب بتعديلات فى الاتفاق أو ينسحب منه ويعيد فرض عقوبات على طهران، لكن الأمر يتطلب إقناع الشركاء الأوروبيين الموقعين على الاتفاق (بريطانيا وألمانيا وفرنسا) بتعديل بعض البنود، لأن الانسحاب ينقل التوتر مرة أخرى للمنطقة.
الواضح فى كل هذا أن الغرب يدير حروبه الباردة بعقل يمنع تطورها إلى صدام، بينما لا يهتم كثيرا بحروب مجنونة تتصاعد وتتوالد فى الشرق الأوسط التعيس.