تحشد دول العالم جهودها القانونية والأمنية لتتسلح بها فى مواجهة الجماعات الإرهابية التى تهدد أمن وسلامة الأبرياء فى شتى أرجاء البلدان، ولا تقتصر المواجهات وجهود الحكومات المختلفة للقضاء على خطر العنف والتطرف على العمليات العسكرية فى ساحات الحرب فقط، بل تمتد إلى أروقة المحاكم أيضًا لمحاسبة هؤلاء المتورطين أو المنتمين لجماعات متطرفة تسببت فى إراقة الدماء وإزهاق الأرواح وترويع الآمنين، لتكون مقاضاتهم عبرة لمن يسير على خطاهم فى سبيل القتل والتدمير والتخريب.
ويسير على خطى جهود مكافحة الإرهاب العالمى المصدر عبر الحدود، العديد من الدول الأوروبية والعربية التى تكرس كل نفيس وغالى من أجل دحر بؤر التطرف، ولعل أبرز البلدان المتصدرة المشهد فى هذا الأمر تلك الدول الأكثر تضررًا واستهدافًا من قبل الإرهابيين، ومن بينها فرنسا، التى عانت كثيرًا من الأعمال الإرهابية بشتى أنواعها سواء حوادث تفجير أو طعن أو دهس.
وفى ظل التشديدات الأمنية التى تجريها عدة دول أوروبية لصد خطر الذئاب المنفردة والعائدين من جبهات القتال فى صفوف تنظيم "داعش" فى سوريا والعراق، تمكنت السلطات الفرنسية من ضبط عدد من العناصر المتشددة المنتمية لتنظيم "داعش" وجماعات إرهابية أخرى، إضافة إلى اللذين عادوا لفرنسا عقب انفصالهم عن التنظيمات الإرهابية، وفى هذا الصدد، تحاكم محكمة الجنايات فى باريس، فى تلك الآونة متشددين عائدين من سوريا، والتى حكمت، أمس الجمعة، على فرنسيين اثنين هما منير ديوارة (23 عاما) ورودريج كنوم (22 عاما)، بالسجن 15 عاما مع الزام قضاء ثلثى عقوبتهما.
فرنسا تشدد قبضتها على العائدين من القتال فى سوريا
وفى ذات القضية، يحاكم الفرنسى المغربى عادل بركى - الذى توجه فى 2013 إلى سوريا للمشاركة فى القتال – وبدوره روى "عادل بركى" خلال محاكمته، الجمعة، أمام محكمة باريس، قصة قتاله فى سوريا، موضحًا أن نوبات ذعر عنيفة ارغمته على القيام بأعمال يدوية ثم العودة إلى فرنسا.
والبداية مع "بركى" – حسب التفاصيل التى نقلتها وكالة الأنباء الفرنسية "فرانس برس" من رواية المتهم داخل جلسة المحاكمة - كانت عندما قال لوالده قبل الذهاب إلى سوريا فى نوفمبر 2013، "نلتقى فى الجنة"، وأكد أمام محكمة باريس الجنائية - التى يحاكم أمامها مع 4 متهمين آخرين - أنه توجه إلى سوريا لمساعدة المدنيين والمساهمة فى تهدئة أحدى مناطق القتال.
مقاتل فرنسى بصفوف الإرهابيين بسوريا يروى قصته فى القتال
وعن رحلة "بركى" البالغ من العمر 39 عامًا، عبر الحدود فى طريقه للقتال داخل سوريا، فإنه كان يقيم حينها فى مدينة إيمارج الصغيرة القريبة من مدينة لونيل بجنوب فرنسا، التى كان يرتاد مسجدها ويختلط بالشباب المتطرفين، ومن ثم انتقل إلى تركيا التى كانت بوابته إلى سوريا، وفور وصوله إلى الأراضى التركية التحق بـ"عبد الكريم ب"، الذى تعرف عليه فى المسجد.
وفى تلك الرحلة يوضح "بركى"، أنه لحق بـ"عبد الكريم" بعد أسبوع لعدم إثارة الشكوك، فيما كانا أول شابين توجها من لونيل إلى سوريا قبل أن يضم إليهما 20 شابًا من هذه المدينة فى واحدة من أكبر دفعات الشباب الذين توجهوا إلى سوريا، نسبة إلى حجم المدينة التى يبلغ عدد سكانها 26 ألف نسمة، لذا صدرت مذكرات توقيف بحق 15 من هؤلاء الشبان بينهم 8 على الأقل قتلوا فى سوريا أحدهم عبد الكريم فى ديسمبر 2014.
وفى الوقت الذى تقف فيه السلطات الفرنسية غير قادرة على العثور على الأعضاء الرئيسيين فى هذه المجموعة، تحاول المحكمة العمل مع 5 متهمين معظمهم من الصف الثانى، فيما يؤكد "بركى"، أن سفره لم يكن منظمًا.
الإرهابى الفرنسى يروى تفاصيل رحلة عبوره للحدود السورية من تركيا
وفيما يتعلق برحلة الحدود أيضًا، فإن "بركى" يوضح أنه وبرفقته "عبد الكريم"، لم يعرفا كيف يعبران الحدود التركية السورية أولًا، لكنهما نجحا فى ذلك لاحقًا بفضل المساعدة اللوجيستية لجوهان جونكاج، أحد أقارب الإرهابى الفرنسى مراد فارس، الذى يعمل فى تجنيد الشباب.
ويوضح "بركى"، أنه فور وصوله برفقة "عبد الكريم" إلى مدينة إعزاز فى سوريا، صادر "أمير جيش محمد" - وهى الجماعة الإرهابية التى التحقا بها فى المدينة السورية - جوازى سفرهما، وهنا سألته رئيسة المحكمة "ألا يبدو الأمر غريبًا بعض الشئ؟ تصلان للمساعدة وتصادر أوراقكما الثبوتية؟"، فأجاب "اعتقدت أن ذلك جزءً من السياسة المطبقة".
نوبات المرض تبعد الإرهابى الفرنسى عن صفوف القتال
وانتقل "بركى"، بعد ذلك إلى نقطة أخرى من رحلة انضمامه إلى صفوف "داعش"، وهى مرحلة التدريب الإلزامى لدى الوصول، وهو الأمر الذى لم يجر بشكل جيد لأن "بركى" - الذى يعتقد أنه مسكون بأرواح شريرة منذ كان فى العشرين من عمره - كان يصاب بنوبات عنيفة تنتفخ خلالها عيناه ويقطع نفسه، ما جعله يخضع لجلسات لطرد الأرواح الشريرة، لكنها لم تأت بالنتائج المرجوة، لذلك اعتبر أمير الجماعة الإرهابية، أنه من الأفضل عدم تسليمه سلاحًا وكلفه بمهام إدارية، ويقول "بركى"، "كنت أنظف الطرقات واقطف الزيتون وقمت بذلك لثلاثة أسابيع".
وخلال التحقيق قال إنه عاد إلى فرنسا لأنه سئم من الأعمال المنزلية، واستطرد حديثه أمام القضاة المشككين، خلال جلسة المحاكمة، أمس الجمعة - عن تجربته التى تركت أثرًا فى نفسه خصوصًا بسبب الدمار والفقر والخراب.
متهمين آخرين يتورطون فى تهريب وتأمين عودة إرهابيين من سوريا
ويشير "بركى"، إلى أنه كان أول العائدين إلى فرنسا فى يناير 2014 ولم يتم اعتقاله إلا بعد عام على إثر اعتداءات باريس فى يناير 2015، ويقول إنه فى الفترة ما بين وصوله واعتقاله، "كان الناس يعتقدون أننى أعمل لحساب الاستخبارات لأننى لم أدخل السجن"، وأضاف "كل هذا لم يكن صحيحا"، إلا أن هناك اتصالات هاتفية خضعت للتنصت، أوحت للمحكمة بأنه كان يريد العودة إلى سوريا، لكنه نفى ذلك، على الرغم من أن أحد المتهمين الآخرين وهو "حمزة موصلى"، كان يطلعه على التطورات الجيوسياسية فى المكان.
وإلى جانب بركى، هناك متهم آخر هو "على عبدومى"، البالغ من العمر 47 عامًا، والمتهم بالذهاب إلى سوريا، لكنه ينفى ذلك على الرغم من وجود العديد من الأدلة التى تدينه، والرجل الذى لم يكن يبدو عليه أى إشارة لالتزام دينى، كان ينشط على هامش مجموعة لونيل، ويعيش فوق محل للأطعمة يملكه "عبد الكريم ب"، ويتجمع فيه الشبان المتطرفون.
ويؤكد عبدومى، أنه كان على خلاف مع إدارة الخدمات الاجتماعية فى تلك الفترة وعرض عليه الذهاب للقتال فى سوريا، موضحًا أنه توجه إلى الحدود السورية التركية فى إطار خطة سرية لتأمين تسلل "عبد الكريم ب"، الذى كان يريد العودة إلى فرنسا، لكن بسبب الاتصالات العديدة التى تؤكد تطرف "عبد الكريم" إلى حدود قصوى، لم تقتنع المحكمة بأقواله على ما يبدو، وذلك حسب ما نشرته وكالة الأنباء الفرنسية فى تقريرها.