محمد حبوشه

الاقتصاد السرى.. خطر يهدد كيان الدولة القومية

الجمعة، 11 مايو 2018 05:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

كائن شرس ينهش ثروات البلاد ويوهم بالتنمية، نحن نتحدث هنا عن كيان اقتصادى كبير وقوى جدا يعمل بشكل خفى وغير مستفاد منه، وهو اقتصاد "بير السلم" أو ما يسمى بالاقتصاد السرى، ذلك العالم مجهول الهوية، لكنه فى ذات الوقت عبارة عن دولة كبيرة تهدد كيان الدولة القومية، وذلك لأنه ربما يكون مسيطراً على معظم مفاصلها، وبالتالى أصبح يشكل نوعا من العشوائية والخطر لاستغلال أرباحه من جانب جماعات دينية، تخترقها بسهولة المنظمات الإرهابية والمتطرفة سواء من خلال التمويل أو جنى الأرباح، ففى الوقت الذى يصل فيه الناتج المحلى الإجمالى للدولة نحو 2.8 تريليون جنيه، هناك مبلغ موازٍ له تقريبًا، لكنه يدار فى الخفاء، هو ليس تجارة غير مشروعة أو ما شابه، لكنه عبارة عن مشروعات كثيرة تدار بعيدا عن النطاق القانونى، وبالتالى لا تستطيع الدولة تحصيل أى ضرائب عنها، ويتساوى فى ذلك الباعة الجائلين الذين لا يملكون سجلات ضريبة، ويقدر عددهم بنحو ثلاثة ملايين بائع، ويضاف لهم أطباء كبار ومحامين ومهندسين يقدمون خدماتهم المهنية دون إثبات ذلك فى السجلات الضريبية.

 

وأيضا هنالك الأكثر خطرا من هؤلاء، وهم أولئك الذين يديرون بيزنس خاص عن طريق "مصانع بئر السلم" والتى تنتج كل شىء، بداية من الطعام والدواء حتى قطع غيار السيارات، والآن دخلت التجارة الإلكترونية تحت نطاق ما يسمى بالاقتصاد السرى، حيث يتم عقد صفقات عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعى، ويتم من خلالها بيع وشراء سلع وخدمات بمبالغ باهظة دون إثبات ذلك، وهذا بدوره يؤدى إلى تضخم حجم الاقتصاد السرى، حتى إنه أصبح يوازى حجم الاقتصاد الرسمى تقريبًا، وقد أثبتت الدراسات أن هذا النوع من الاقتصاد فى تنام مستمر، نظرًا للمعوقات التى تحول دون إتمام المشروعات الصغيرة والمتوسطة.

 

يكفى أن أذكر لكم أن أى مشروع صغير يحتاج إلى 22 موافقة ليبدأ العمل، وما يتبع ذلك من رشاوى وعمولات تدفع للحصول على الموافقات، بالإضافة إلى إهدار للوقت، وهو ما يؤدى بالضرورة إلى انتشار هذا الاقتصاد السرى فى كل نواحى الاقتصاد المصرى، وفى هذا الصدد تشير إحدى الدراسات إلى أن الاقتصاد الموازى يضم 18 مليون منشأة، منها 40 ألف مصنع يتراوح حجم أعمالها ما بين 1.2 تريليون، و1.5 تريليون جنيه، أى نحو من 65% إلى 70% من حجم الاقتصاد الرسمى، كما يمثل عدد العاملين فى هذا الاقتصاد نحو 40% من عدد العاملين فى مصر، بينما تخسر الدولة نحو 330 مليار جنيه سنويًا بسبب الضرائب المهدرة عليها جراء عدم إدراج هذه المنشآت ضمن الاقتصاد الرسمى للدولة.

 

الخبراء العالميون قدروا أن أصول هذه الظاهرة فى مصر تبلغ حوالى 400 مليار دولار، ويقدرها خبراء محليون بنحو 1.6 تريليون جنيه، وهو ما يفقد الاقتصاد المصرى الكثير من قيمته لعدم وجوده فى سجلات رسمية بالدولة، وبالتالى حرمان خزانة الدولة من أموال طائلة كان من الممكن إنها تغنى مصر عن العجز المتواصل بها، وقد بذلت الدولة جهودا عام 2005 وشكلت لجان وعقدت مؤتمرات لضم الاقتصاد غير الرسمى فى الاقتصاد الرسمى للدولة لتسهيل حصول الأول على تمويل وتوسع نشاطه وتحقيق موارد للطرف الثانى، وهى هنا الدولة، ولكن لم تستطيع الحكومة وقتها تطبيق أى شىء، وهذا يرجع ببساطة لكبر حجم الظاهرة من ناحية، ودواعى حالات لجوء أصحابها إلى استغلال الفقراء فى هذا الأمر، والذى يحدث داخل هذا القطاع شيىء أغرب من الخيال من ناحية حجمه وسلوك أفراده، حتى بلغت جرأة بعضهم من أن يسرق كهرباء من أقسام شرطة كما حدث فى الموسكى والأزبكية.

 

وفى هذا الصدد أيضا يقول معهد الحرية والديمقراطية - من أبرز مراكز دراسات التنمية فى العالم - إنه قام بدراسة حجم الاقتصاد غير الرسمى فى مصر، وشملت الدراسة تقدير قيمة كل المشروعات والممتلكات غير المسجلة، وبلغ حجمها 400 مليار دولار، كما يشير المعهد إلى أن هذا الرقم أكثر من القيمة السوقية للشركات المسجلة فى البورصة المصرية بـ30 مرة، بالإضافة إلى أن الاقتصاد غير الرسمى فى مصر أكبر مستخدم للعمالة، وأخطر ما فى هذا التقرير إحصائية تقول إنه فى الوقت الذى يوظف القطاع الخاص بشكل قانونى 6.8 مليون شخص، والقطاع العام يوظف 5.9 مليون، يقوم هذا القطاع غير الرسمى بتوظيف 9.6 مليون، وبالنسبة للعقارات كان 92% من المصريين يحتفظون بممتلكاتهم دون سند ملكية قانونى.

 

وتتكون الثروات الناتجة عن أنشطة الاقتصاد السرى تحديداً - بحسب التقرير - من أعمال: أموال الباعة الجائلين، أموال تجارة السوق السوداء خاصة فى العملة، الأعمال الناتجة عن والاتجار فى المواد التموينية المدعمة، الرشوة وأموال السلاح، أموال المخدرات، أموال الدعارة، أموال الاتجار فى الأطفال، أموال الاتجار فى الأعضاء البشرية، أموال القمار، أموال القرصنة على أموال البنوك، أموال استغلال نفوذ المسئولين، أموال التهرب الضريبى والجمركى ولا يدخل ضمنها عمليات غسيل الأموال فهذه قصة أخرى.

 

إذن الحقائق الغائبة فى هذا الملف تقول إن "الاقتصاد السرى" هو اقتصاد مواز للاقتصاد الرسمى للدولة، أى أنه تجارة مشروعة لكنه لا يخضع لآليات الدولة من ضرائب وتأمينات اجتماعية وتأمين صحى وغيره، وهذا بدوره يؤثر على الاقتصاد الرسمى الذى يقوم أصحابه بسداد المستحقات الحكومية من "إيجار، نور، مياه، ضرائب، تأمينات اجتماعية، تأمين صحى ورسوم جمركية ورسوم أخرى عامة"، وهناك بعض الأرقام التى تنذر بالخطر حول الاقتصاد غير الرسمى فى مصر، فقد بلغ حجم هذا النشاط فى عام 2013 ما يعادل نحو 40% من الناتج المحلى الإجمالى تنتجها 2.7 مليون منشأة يعمل بها نحو خمسة ملايين عامل أو 66% من مجموع العمالة غير الزراعية فى القطاع الخاص، أيضا الممتلكات العقارية اللى يمتلكها 92% من المصريين غير مسجلة، وتبلغ قيمتها ما يقدر بنحو تريليون جنيه فى عام 2014 وتتركز ملكية 70% منها فى أيدى أصحاب الدخل المنخفض، وهنا ألفت النظر إلى أن تقنين أوضاع هذا القطاع الضخم من شأنه أن يؤدى إلى نمو اقتصادى إضافى يقدر بنحو 2% سنويا، وهذا من شأنه تصحيح العديد من المشاكل المؤسسية والهيكلية فى الاقتصاد، كما أنه يعود بالعديد من الفوائد الأخرى، ومنها حصول العمال على مزايا الضمان الاجتماعي، وتحقيق إيرادات ضريبية جديدة، والتخفيف من حدة الفقر.

 

ومن هنا يتضح لنا مدى تنوع السلبيات التى تقع على عاتق الاقتصاد المصرى من ممارسات الاقتصاد غير الرسمى، فمنها ما يعود على الدولة كمؤسسة، ومنها ما يعود على أداء الشركات العاملة فى الاقتصاد الرسمى، ومنها ما يعود على الأفراد العاملين بالقطاع غير الرسمى، ومنها ما يعود على المجتمع ككل سواء كمستهلكين أو سكان محيطين ببعض الكيانات العاملة فى الاقتصاد غير الرسمى، خاصة تلك العاملة فى قطاع الصناعة، وذلك على النحو التالى:

 

أولا: ضياع جزء لا يستهان به من الإيرادات على الخزانة العامة للدولة، سواء المتعلقة بالتهرب الضريبى أو تلك المتعلقة برسوم التراخيص وتقديم الخدمات الحكومية، وتقدر المبالغ الخاصة بالتهرب الضريبى للاقتصاد غير الرسمى بنحو350  مليار جنيه مصرى، فالمؤسسات العاملة فى الاقتصاد غير الرسمى لا تقدم فواتير لزبائنها، وهى بالضرورة لا تحصل على فواتير لمشترياتها، حتى لا يستدل عليها لدى مصلحة الضرائب، خاصة إذا ما علمنا أن الحصيلة الضريبية فى مصر لا تزيد عن 260 مليار جنيه سنويًا.

 

ثانيا: مخالفة شروط السلامة والصحة فى مؤسسات الاقتصاد غير الرسمى، فلا تتوفر الشروط الصحية لدى العاملين بهذا القطاع، ولا تخضع مستلزمات الإنتاج للشروط الصحية التى تشرف عليها جهات رسمية من قبل الحكومة بشكل منتظم أو فجائى، وفى الغالب يتم تجاوز الشروط الصحية بغية توفير التكاليف، لكن فى النهاية يتحمل المستهلك هذه المخاطرة ، ويتكبد المجتمع تكاليف العلاج ومواجهة العديد من الأمراض.

 

ثالثا: تُعد حقوق العاملين الضائعة أبرز السلبيات بمؤسسات الاقتصاد غير الرسمى، بدءا من اختيار العاملين من حيث العمر، إذ لا تمانع هذه المؤسسات فى تشغيل الأطفال، كما لا تلتزم بالتواجد فى المناطق الصناعية المعدة لذلك والتى تتوافر بها مواصفات الأمن الصناعى، وذلك لأن العاملين يخضعون لظروف عمل غير مناسبة مما يعرضهم لكثير من الأمراض، كما لا يتمتعون بأية نوع من الحماية سواء كان على شكل تأمين صحى أو اجتماع، كما يخضعون أيضا لساعات عمل أطول، وبأجور متدنية مقارنة لما عليه الوضع فى الاقتصاد الرسمى.

 

رابعا: إضعاف منافسة الاقتصاد الرسمى، إذ عادة ما يعتمد الاقتصاد غير الرسمى على السلع المهربة من الداخل أو الخارج، فيتم عرض سلع الاقتصاد غير المنظم بأسعار تقل بفارق ملحوظ عن نظيرتها المنتجة فى الاقتصاد الرسمى، فيضعف ذلك من قدرة منافسة الاقتصاد الرسمى، وهذا باب آخر للإضرار بحصيلة الإيرادات العامة للدولة، حيث تكون السلع المهربة غير خاضعة لرسوم الجمارك.

 

خامسا: قيام منشآت الاقتصاد غير الرسمى بممارسة نشاطها وسط التجمعات السكانية، وهذا عادة ما يضر بالسكان والمرافق العامة، حيث تكون المرافق مصممة على خدمة مناطق سكانية وليس مناطق صناعية، كما أن بعض الصناعات يكون لها عوادم كربونية فى الهواء فتؤدى إلى تلوث هواء المناطق السكانية، وقد لوحظ أن هذه المنشآت كانت أحد الأسباب الرئيسية فى تلوث مياه نهر النيل، لأنها تقوم بأعمال صرف مباشرة على النهر دون إجراء أى معالجات لصرف مخلفاتها، وهو ما يترتب عليه ارتفاع معدلات تلوث مياه النيل.

 

ومن هنا نلاحظ تنوع السلبيات التى تقع على عاتق الاقتصاد المصرى من ممارسات الاقتصاد غير الرسمى، فمنها ما يعود على الدولة كمؤسسة، ومنها ما يعود على أداء الشركات العاملة فى الاقتصاد الرسمى، ومنها ما يعود على الأفراد العاملين بالقطاع غير الرسمى، ومنها ما يعود على المجتمع ككل سواء كمستهلكين أو سكان محيطين ببعض الكيانات العاملة فى الاقتصاد غير الرسمى، خاصة تلك العاملة فى قطاع الصناعة، وتتسبب سلبيات الاقتصاد الموازى فى ضياع جزء لا يستهان به من الإيرادات على الخزانة العامة للدولة، سواء المتعلقة بالتهرب الضريبى أو تلك المتعلقة برسوم التراخيص وتقديم الخدمات الحكومية.

 

ولتعظيم الإيجابيات التى يخلفها هذا النوع من الاقتصاد السرى، يجب على الدولة وضع خطة استراتجية طويلة المدى لوقف الاقتصاد الخفى، من خلال التسهيلات التى يجب تقديمها من الاقتصاد الخاص بالدول النامية؛ سواء على المستوى الفنى أو العلمى أو على دمج الاقتصاد الموازى فى القطاع الرسمى يحمى المستهلك من أضرار السلع التى يتم إنتاجها تحت "بير السلم"، كما ينبغى تفعيل دور الأجهزة الرقابية بشكل أكبر، وعودة الأجهزة الأمنية لممارسة دورها المنوط بها فى مساعدة الأجهزة الرقابية فى القيام بدورها لمنع الممارسات الخاطئة من قبل مؤسسات الاقتصاد غير الرسمى، خاصة إذا ما علمنا حجم الاقتصاد الأسود فى مصر حوالى 3 تريليون جنيه، وبالتالى لابد من وجود حوافز وامتيازات من الدوله لهؤلاء وتشجيعهم على الدخول فى الاقتصاد الرسمى للدولة، ففى حاله تقنين أوضاعهم سيعود هذا على الدوله سنويا بما قيمته 150 مليار كل عام.. وذلك هو أضعف الإيمان!.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة