فى الحنين للماضى والذكريات، فإن رمضان هو أكثر شهور السنة التى ينطبق عليها «النوستالجيا»، الطقوس فى الأكل والشرب والاحتفال.. القطايف والفانوس والتراويح، وكل جيل له حنينه الخاص، يتعلق بما تختزنه الذاكرة الجماعية من صور تسجلها الذاكرة وتستدعيها، وهى طقوس تطورت عبر الزمن، لكل منها طعمه ولونه وشكله المحفور فى الذاكرة، تغيرت الطقوس قبل الكهرباء وأيام الإضاءة بالكلوبات، وتختلف عنها بعد الكهرباء، ومع الإذاعة غيره بعدها، والتليفزيون، ولا يعنى الحنين رغبة فى العودة للعيش فى الماضى، حتى ولو كان البعض يقول هذا على سبيل الشعور بالضيق.
والذكريات قد تكون أكلًا وشربًا، تواشيح، حلقات ذكر، إذاعة، فوازير، ألف ليلة وليلة، ومسلسلات زمن التليفزيون الملون.
وفى الحنين لا نتحدث عن الطقوس الدينية، لكن عن الاحتفالات والقطايف والكنافة والفانوس، وهى ذكريات يتفق عليها المصريون جميعًا، وتمثل علامات لشهر رمضان تختزنها الذاكرة، وتتبادل الأجيال الحنين حسب العمر، وحتى العبادات تأخذ شكلًا مختلفًا عنها فى باقى شهور العام.
أجدادنا ممن وولدوا فى العشرينيات يتذكرون الشيخ محمد رفعت، وكيف كانوا يسافرون ليستمعوا لقراءته أو حلقات الذكر والمنشدين، حيث كانت قراءة القرآن والاستماع إليه فنًا قائمًا بذاته، يستمتع به المصريون عمومًا، بينما مواليد الأربعينيات يحنون إلى رمضان فى الميادين والساحات التى كانت تشهد حلقات الذكر والتراويح فى المساجد الكبرى، ومشاهير القراء.
فى الريف، فقد كان رمضان شتاء، يعنى سهرًا أقل، ومسحراتى يمثل مهمة أساسية، يدور بطبلته على البيوت ليوقظ النائمين، وحتى فى الصيف كان السهر بحدود، وظل المسحراتى مجرد رمز فى هذا العصر، بعد أن فقدت المهنة أهميتها، وبقيت نوعًا من الحنين، مثل الفانوس الذى يمزج الصفيح بالزجاج، وتطور ليحل مكانه هجين صينى قبل أن يعود الفانوس الكلاسيكى من جديد بأشكال قديمة وإمكانات حديثة.
الخمسينيات والستينيات قمة عصر الإذاعة، وألف ليلة وليلة، وبدايات تسجيلات كبار القراء والفوازير، وبعده التليفزيون الأبيض والأسود بينما يحن مواليد الثمانينيات لتنويعات أخرى، دراما أسامة أنورعكاشة، وفوازير نيلى وشريهان. واللافت للنظر أن الكثير مما تحتفظ به ذاكرة الحنين الثمانينى هو عبارة عن إعلانات، فقد كانت الثمانينيات من القرن العشرين هى قمة صعود فنون الإعلان والجوائز الضخمة فى الفوازير، والتى تصل إلى شقق من شركات توظيف الأموال والإسكان، وسيادة إعلانات الزيت والسمنة.
هناك مفارقات تجعل رمضان مختلفًا فى مصر، ليس فقط للمسلمين وإنما أيضًا للمسيحيين، والأكل علامته المميزة، والتى تشكل جزءًا من ذاكرة الأجيال.
لا يتذكر المصريون القطايف فى غير رمضان، والأكل له مكانته الخاصة جدًا، ونظريًا رمضان شهر الزهد لكن ترتفع فيه حالة الاستهلاك بشكل يفوق باقى شهور السنة.
وهذه الحالة «الأكلية» عرفتها مصر منذ عصور قديمة، ربما تمتد إلى الفراعنة، وتتجلى فى شم النسيم والأعياد، حيث الأكل تعبير مصرى عن الأعياد بشكل يكاد ينفصل عن المناسبة الدينية، والقطايف والكنافة وغيرهما من أكل رمضان تجد مكانها فى بيوت المصريين بشكل عفوى، ومن دون الحاجة للبحث عن رمزية الوحدة الوطنية، فهى أطعمة تمثل طقوسًا وذكريات أقوى من أى تحول.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة