رمضان ليس شهرا، بل فصلا مدته 30 يوما من فصول الطبيعة والإنسان وتقواه لله عز وجل، لا أنسى أبدا ذكريات طفولتى فى مدينتى المنيا التى تبدأ برؤية الهلال، وبعدها تبدأ زفة الرؤية احتفالا بالشهر الكريم، كانت والدتى تلبسنا ملامح جديدة ونقف على كورنيش المنيا ننتظر مرور الطرق الصوفية بأبهى الجياد والعمم الخضراء، كان فى المنيا حينذاك أكثر من 30 طريقة صوفية أشهرها الرفاعية والشاذلية والبيومية وغيرها، وسط دق الدفوف ورقص الأطفال، وزغاريد النساء، قبل أن تعرف المنيا التطرف والإرهاب، كان الاحتفال يبدأ من منطقة جنوب المنيا تسمى «أرض المولد»، وينتهى فى آخر الكورنيش حوالى ثلاثة كيلو مترات تمتد من أرض المولد جنوبا وحتى قرية الإخصاص شمالا، فى موكب يستمر لساعات.
وللطرق الصوفية بالمنيا احتفالات سيدى أحمد الفولى التى سميت المنيا «منيا الفولى» تخليدا لاسمه، حيث يحتفل أهالى المنيا بمولده يوم 27 من رجب، الذى يتزامن مع الإسراء والمعراج، وهو على بن محمد بن على، ولد عام 990 هجريًا، جاء من اليمن إلى مصر، وتلقى العلوم بالأزهر، وسار على المذهب الشافعى على يد الشيخ سيدى محمدين يحيى الجركسى، واحترف ببيع الفول وتزوج من المنيا، وذاع صيته لما عُرف عنه من تصوف وصلاح وزُهد واستقامة وتبحر فى علوم الشريعة اللغوية والصوفية الشاذلية، توفىّ عام 1076 هجريًا، أى بعد عمر يناهز 85 عاما، دفن فى ضريح خاص بالزاوية التى أنشأها فى حياته على شاطئ النيل، وتحولت الى مسجد.
والذكرى الثالثة التى تنطلق فيها مسيرات الطرق الصوفية هى ذكرى المولد النبوى الشريف، التى تبدأ فيها مسيرات الطرق الصوفية من مسجد الفولى إلى الميادين الرئيسية: ميدان الساعة وميدان بالاس وميدان المحطة ثم إلى الكورنيش وعودة لمسجد الفولى، وأمام ساحة الفولى فى الأعياد الثلاثة تنصب الطرق الصوفية الخيام والسرادقات، حيث تستمر الاحتفالات والمديح إلى بعد منتصف الليل، وتطوع الشيوخ لتقديم الوجبات والمشروبات للزائرين وقراءة القرآن وتقديم الذبائح والطعام للفقراء، كما برزت التواشيح الدينية وحلقات الذكر التى تستمر حتى نصف الليل ويقبل عليها المواطنون من جميع القرى.
مسجد الفولى لا يبعد عن كنيسة الشهيد مار جرجس إلا أمتارا قليلة، ولم يحدث طوال مئات السنين الماضية أن حدث أى شىء يذكر بين المنياوية من أبناء كنيسة مار جرجس أو سيدنا الفولى.
ومن سيدنا الفولى إلى جارة الشهيد مار جرجس السكندرى، سافر والده التاجر بالإسكندرية إلى اللد بفلسطين، وحضر عيد تكريس كنيسة الشهيد مارجرجس «جاورجيوس الكبادوكى»، تأثر بالاحتفال المهيب لهذا الشهيد والألحان الكنسية، وإذ سمع عن سيرة الشهيد أحب الحياة المسيحية، نال سرّ العماد، وتهللت نفسه.
عاد إلى الإسكندرية أخبر زوجته بما تمتع به، فآمنت هى أيضًا، واعتمدت ورزقا بطفل سمياه جاورجيوس، بعد وفاة والده احتضنه خالة ارمانيوس وكان له ابنة وحيدة اعتنقت المسيحية، وتم قطع رقبتها ونالت إكليل الشهادة، وعرف ارمانيوس أن جاورجيوس هو السبب فى إيمان ابنته فقام بتعذيبه، ثم قطع رأسه ونال إكليل الشهادة.
كما يحتفل أهالى المنيا بذكرى سيدنا الفولى 27 رجب يحتفلون أيضا بذكرى الشهيد مار جرجس فى 7 هاتور، بالمديح والفرح والذبائح، ومن المعروف أن لمارجرجس 373 كنيسة فى مصر منها 15 كنيسة بالمنيا.
هكذا فالروحانية والزهد والصوفية فى القلب والحشا، فالمصريون، مسلمين وأقباطا، يحتفلون بما يزيد على مائة مولد واحتفالية لولى أو قديس أو قديسة، إضافة إلى الأذكار التى يذكر فيها اسم الله وتروى فيها قصص السلف الصالح، هذه الهوية الروحية لشعبنا العظيم تتجاوز كل فهم، وتتجذر فى المخيلة وتنموا من جيل إلى جيل فى الوجدان.
ومن الاحتفالات إلى الصيام ومعروف أن المصريين يصومون 467 يوما كل عام فى صيامهم الكبير «الأربعين المقدسة» فى الطريق للانتهاء، ينتهى بأسبوع الآلام والقيامة، لا أعتقد أنه يوجد شعب فى العالم له علاقة بالصوم مثل الشعب المصرى، وصدق أو لا تصدق أن المصريين مسلمين ومسيحيين يصومون «467» يوما من السنة التى تبلغ أيامها ما بين «365-366» يوما!
أصوام الأقباط فهى: «55» يوما الصوم الكبير، وثلاثة أيام يونان، «42» يوما الصيام الصغير، و«40» يوما صيام الرسل، و«15» يوما صيام العذراء، ومن الممكن أن يزيد صيام العذراء اختياريا إلى «21» يوما، إضافة إلى يومى الأربعاء والجمعة، ليصل عدد الأيام إلى «256» يوما ممكن أن تزيد اختياريا إلى «266» يوما، وهكذا يبلغ إجمالى صوم المصريين مسلمين ومسيحيين «406» أيام، وفى حالة الزيادات التقوية التطوعية تصل أصوام المصريين «467 » يوما من «365» يوما، أى أن المصريين يصومون أزيد من أيام السنة بحوالى «100» يوم؟!
أما أصوام المسلمين: فى كتاب «فقه السنة - العبادات، المجلد الأول»، أن المسلمين إضافة إلى شهر رمضان المعظم، يصومون: ثلاثة أيام فى شهر شعبان «13-14-15»، ووقفة عرفات يزيدون اختياريا إلى عشرة أيام، وفى شوال الستة أيام البيض، وأول ونصف رجب والسابع والعشرين منه، بالإضافة إلى «104» أيام اختياريا، وهى الاثنين والخميس، ليصل الإجمالى ما بين «147» يوما أو تزيد.
كل تلك الذكريات مرت بذاكرتى فى مطلع الشهر العظيم أعاده الله على أهل مصر والمنيا بشفاعة سيدنا الفولى والشهيد مار جرجس.
