لعقود كثيرة من السنين ونحن نضحك ونؤلف الأفلام والمسرحيات القائمة على السخرية والتندر من أقسام حفظ الملفات أو الأرشيف ، وخاصة فى الهيئات الحكومية والعاملين فيها، بل وصرنا نلقى إلى تلك المهنة كل من لا يفلح فى عمل وكل غير مؤهل وكل معاقب وكل من لا يروق لنا مهنيا أو شخصيا.
وصارت مهنة الحفظ معيبة وعلامة على الفشل وعلى الإقصاء ورمزا من رموز الضحك الجاهل والمضلل بفضل كل من سوق لفكرة أن العمل فى مجال حفظ الملفات هو إنسان فاشل أو يدعو إلى الرثاء أو إلى الضحك، ولم يخدم مصر كل من سوق لهدم مهنة حفظ الملفات أو الأرشفة أبدا ، سواء عن قصد أو عن عمد .
وقد مضت عقود طويلة الآن، وليس لدينا متخصصون فى الأرشفة أو حتى من هم راغبون في العمل في تلك المهنة الهامة والأساسية في كل موقع من مواقع الحياة .
ولا يعقل الآن ، ونحن على أعتاب مرحلة جديدة تماما ومليئة بالتغير وبالجهد الرامي الى الارتقاء في سلم الحضارة والمدنية ، وخاصة خلال السنوات الأربعة الماضية التي ملأها الرئيس عبد الفتاح السيسي حراكا وأملا وانعاشا ، أن نواصل طريقنا سادرين فيما نحن فيه من تجاهل مهنة الحفظ أو الأرشفة . فكثير من دوائرنا الحكومية وغير الحكومية – حتى داخل الجهة الواحدة – على غير اتصال ببعضها البعض ، ولا يعلم بعضها ما يدور في بعضها اللآخر ، ولا يتوفر فيها كلها اسلوب مطور للحفظ أو أناس مخصصون للحفظ فقط وملمون بمهاراته الحرفية ، ولا يتوافر لدى أي من هذه الدوائر والمصالح حفظ جيد ـ إلا فيما ندر وبالاستعانة بشركات خاصة .
إن الاستعانة بشركات خاصة لإجراء عمليات حفظ سريعة ، وخاصة لأطنان من الملفات المتراكمة عبر سنوات طويلة من الماضي ، قد لا يقدم إلينا سوى حل سريع وجزئي لمشكلة عظيمة وآخذة في التعاظم وتحتاج إلى معالجة وتدخل قريب ومدروس ومحكم لكي تبدأ المشكلة فى السيولة والهبوط والتراجع عن هذا التضخم المستمر، ناهيك عن التكلفة العظيمة ماليا للاستعانة بتلك الشركات الخاصة، وناهيك عن اضطرارك لفتح ملفات كافة الجهات لتلك الشركات لكي تقوم بمسحها وحفظها وما قد يترتب على ذلك من أضرار محتملة، فليس يغفل عن أحد ما لغياب مهنة الأرشفة من نتائج وخيمة وخطيرة على حياة الفرد وعلى حياة المجتمع ككل .
إن كل الحقوق تتعلق بحفظ جيد . الأعمال تتعلق بحفظ جيد ، والقضاء يتعلق بحفظ جيد ، والدراسة تتعلق بحفظ جيد ، والتاريخ يتعلق بحفظ جيد ، والأدب يتعلق بحفظ جيد ، وكافة العلوم والمهن تتعلق بحفظ جيد لبداياتها ومراحلها وسكناتها وحركاتها ، والا تعرضت لسقطات وفلتات قد تعيقها عن الاستمرار وعن تحقيق أهدافها المنشودة . فالحفاظ يتوفون والمجيدون لأعمالهم ومهنهم في كل منحى من مناحي الحياة يرحلون الواحد تلو الآخر حاملين معهم ما يعرفون من اسرار مهنهم ودقائقها التي استغرقتهم سنين أو عقودا ليفقهوا كنهها أو يتعلمونها ثم يتقنونها . وقد سرقت أجزاء كبيرة من تراثنا القيم في مختلف المجالات وبيعت وتسربت عن قصد أحيانا وعن جهل أحيانا ، لأن أحدا لم يبد اهتماما ، ولأن ما ظهر منا تجاه الحفظ واهله قد لا يخرج عن الضحك والفكاهة والتندر على هولاء المساكين التافهين قليلي القيمة الذين ألقوا الى قاع الحياة الوظيفية كنفايات وظيفية لا حاجة للعمل بها ولا عازة اليهم ولا كرامة لما يؤدنه من مهمة جليلة .
وباتت بعض الدول وبعض الاشخاص الآن يحتكمون على أرشيف كامل لبعض مما يخصنا في مجالات معينة ولا يخصهم ، ولكنهم نجحوا في الوصول اليه بالتودد وبالمجاملة وبالحيلة وبرشوة موظفين بسطاء ولكنهم قائمون – بلا قدرات مهنية ولا دراية علمية ولا تلقين حرفي – على حفظ ما لا يقدر بثمن أحيانا ، ولا يتقاضون سوى الفتات الذي لا يكفي أحدا ولا يملء عينا . بل ولا يطل عليهم أحد للمراجعة أو الاطمئنان أو التفتيش أو الفحص الفني لما هو محفوظ وحالته من الجودة أوالسوء ، ليترك الباب للخبثاء من صيادي كل قيم ونفيس ليجدوا طريقهم مفتوحا ميسرا الى ما يشتهون ومقابل ملاليم من المال .
إن علم الحفظ ومهنة الحفظ هامان ومؤثران في حياة كل المجتمعات ولهما كل التبجيل والتقدير ، ويلزم أن يحظيا بكل ما هو مطلوب من اهتمام مؤسسي وأكاديمي وفني وثقافي ، وينبغي أن يكون محطا للاحترام وليس مصدرا للفكاهة والسخرية . واذا أحسنا صنعا ، فقد يكون من الملائم دراسة امكانية افتتاح مدارس متخصصة في علم الحفظ وفي تخريج الفنيين في مجال الحفظ ، وحث الجهات الأكاديمية والبحثية على تكريس بعض من جهودها ومن أقسامها لمهنة الحفظ ، وادراج مهنة المتخصص في الحفظ في مؤسساتنا العامة والخاصة ، لننقذ أنفسنا من الوقوع في أزمة أو كارثة كبيرة لاحقا بالاكتفاء باسناد حفظ كل شىء الى موظف معاقب أو غير راض أو لا يصلح أو مثير للمشاكل . حفظ الله مصر دولة مدنية يتساوى الجميع فيها في الحقوق والواجبات ، وحفظ رئيسها ووفقه الى الخير .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة