لم أعرف لها اسمًا، كل ما سمعته عنها كان مخيفًا.. أصابها نور غامض فى عتمة الليل، كتمت أنفاس رضيعها فى أوج
نومها، قطعت عليها الطريق جنيَّة تسألها عن طريقة تمشيط الشعر.. هكذا قالوا، وهكذا عشنا لنسمع مع مرور الزمن.
اكتشفت أن أعمارنا تنمو وتنمو معها القصة، من بئر أى أسطورة تشرب هذه المرأة حتى تظل خالدة، الزمن رغم
قسوته لم ينجح فى تدمير تضاريسها الذاتية، كانت ذات جسد أو تدخلات « جيم » مخروط دون أنظمة غذائية أو ألاعيب
السيليكون والبوتكس والفيللر، كان توهجها طبيعيًا، ولكن ينقصه حملة نظافة تتخطفها من التيه وفضاء المجذوبين إلى
عالم المرأة المرغوبة.
لم أسمعها تتكلم أبدًا، وكلما كبرت زاد إصرارى على معرفة مَن دفعها إلى أرض المجاذيب، وكلما هممت بالسؤال تصدنى
عيونها الحادة والمخيفة إذا اتسعت.
فى قريتنا كان الشتاء مثيرًا للفضول، ظلام مخلوط بأرض موحلة، وبرك مائية مفاجئة، تقفز لتعبرها مسرعًا لتهرب
من ظلام محمل بحكايات عن الجن والعفاريت، محملًا بتلك المخاوف، سمعت ذات مرة همهمة بكائية فى شق من
شقوق منزل مهجور، كان العبور بجوار هذا المنزل تحديدًا مغامرة نتفاخر بها فى طابور المدرسة، صباح اليوم التالى
همهمة قادمة من بيت الرعب، تستدعى ركضًا بمعدل أسرع من خطوات كريستيانو رونالدو، وهو يبصر مرمى خاليًا فى
مباراة نهائية طرفها الآخر الخصم اللدود برشلونة، ولكنى لم أفعل، ماتت بداخلى كل الحواديت المرعبة، وتجبرت خلايا
الفضول والتلصص، وكانت نظرة واحدة كافية لأن أنتفض وأجلس بمؤخرتى فى بركة الماء الموحلة.. كانت هى وكانت
عيناها فى قمة الاتساع.. واتساع عيونها كان مخيفًا، وعيونها فى ظلام يخترقه شعاع نور ضال أكثر رعبًا، وهذا الرعب
يتسرب لقلبى كلما تذكر العقل قصصها الأسطورية، والعقل لم يكل من تكرار طلبه، أسألها عن سرها.. وهى لم تكن فى
حاجة إلى سؤال.. أصبح صوت بكائها همهمة كلحن حزين فى الخلفية، ثم أتى صوت لم أسمع انكساره من قبل قائلًا:
عارف يا ولد أنت أنا كنت بحبه قوى، كانت روحى فيه، قالوا » لى ده مش نصيبك، بس أنا كنت بحبه، لحد ما شُفته معاها
فى الغيطان، من وقتها وأنا شُفتهم جوزين عفاريت وشعرى ثم عادت لصمتها ومارست هواياتها فى استهداف ..« طقطق
رأسى بالحجارة.
***
يسمونها وردة.. كبرت على ريحها العابرة فى شوارع قريتنا، الجلباب الفلاحى قديم الطراز، يحمل كل ألوان الزهور
الممكنة، يتلاءم تمامًا مع شعرها الذهبى وعينها ذات الألوان الغريبة.. تقفز وردة من شارع إلى آخر ومن حارة إلى أخرى
بنفس الابتسامة ونفس نشاط سعاد حسنى، وهى تغنى .« الدنيا ربيع والجو بديع » وردة هى ناشرة الابتسامات، مجذوبة، عقلها ذهب فى زيارة إلى حيث الإله، لا أحد يعرف أين ومتى وكيف؟! المهم أن وردة تبتسم.. ذات مرة طافت بجمالها حول منزلنا، تعثرت فى واحد من هؤلاء الأطفال الذين ابتلاهم الله بنصف محصول الدنيا من السماجة، تعرض لطريقها قذفها بقطع من الحجارة، لم تهتم ثم فجأة صرخت كما الأطفال، وبكت كمن خسر عزيزه، وردة » : حينما سمعت الوحش المتجسد فى هيئة طفل يقول بكت كما لم تبكِ من قبل، ،« الهبلة أهى.. وردة الهبلة أهى أنا » : ولم أرَها سوى غارقة فى أحضان سيدة عجوز وتهمهم ثم اختفت وأنا ،« مش هبلة يا خالة.. أنا مش هبلة يا خالة أنا مش » أفكر فى نصف الجملة التى لم تقُلها وردة، بعد
ترى ستحكى عن حبيب هجرها، عن أب ..« هبلة يا خالة شديد القسوة، أم جريمة لم يحتملها عقلها؟! مرت كل هذه السنوات، ولا أعرف إن كان رب السماء قد اقتطف وردته من بستان الدنيا، أم ما زالت على حالها، فقط كل ما أعرفه أنى عموما حائر فى سر وردة .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة