"بشتغل عشان أسدد دين أمى وما تدخلش السجن، وكان نفسى أكمل مدرسة لكن ما باليد حيلة، وياريت لو ينفع أكمل تعليمى وأنا بشتغل".. تكررت هذه الجملة على لسان 10 من الفتيات الذين يعملون بمصنع السجاد بأبيس، والذى أنشأته مؤسسة مصر الخير، لمساعدة الغارمات على تسديد ديونهم والعمل بما يحميهم من معاودة الاستدانة مرة أخرى والتهديد بدخول السجن، فكان نصيب بناتهم التضحية بطفولتهم نظير هذه الحياة التى يدورون حولها، فكل ظروف حياة هؤلاء الفتيات متشابهة، فمعظمهم يعيش وسط عائلة مشارك فيها 5 أخوات على الأقل، بينهم ولد واحد، بينما تبقى الأربعة فتيات هن الأكبر الذين يعلمن فى مصانع الملابس والسجاد، إما سدادا لديون أمهاتهن اللاتى يقترضنها من أجل تجهيزهن للزواج، أو لعدم قدرة الأب على جلب ما يوفر لهم أبجديات الحياة، جميعهن تركن المدرسة فى سن العاشرة ليبدأن مرحلة جديدة بعيدة عن الطفولة ومتطلباتها، فلا تعليم ولا ملابس طفولية أو أوقات للهو مع أصدقائهم، فالجميع يحمل أثقال همومهن فى السادسة صباحا، وينسجنها على أنوال السجاد فى المصنع حتى الخامسة، ليحملن كسعاة البريد بنهاية الشهر خمسمائة جنيه أو تزيد إلى الأم التى تتدبر أمرها فى سداد ديونها، ولا يكن من نصيب مريم أو زميلاتها سوى نظرة رضا تكفيها لباقى الشهر وتزيد.
تجد مريم الفتاة التى تبلغ 12 سنة وهى ترتدى الحجاب الذى يجردها طفولتها ويمنحها خشونة فى الملامح، تعفيها مغازلة الشباب، أو التفكير فى الاقتراب منها، بشجاعة اكتسبتها من عمر الثمانى سنوات، التى بدأت منه العمل فى مصنع السجاد واحترفت المهنة حتى أصبحت تعمل على نول بمفردها، وتنتج بعد 3 أشهر أو يزيد حسب نوع السجادة، أفضل أنواع السجاد اليدوى، الذى يصدر للخارج، لتحصل شهريا على ما يقرب من 700 جنيه.
وتقول مريم: عندى أخ واحد و4 فتيات، وما أحصل عليه أشارك به والدتى فى سداد ديون اخواتى البنات اللاتى تزوجن العام الماضى، وشراء حاجات جديدة لأختى المخطوبة، والتى يرفض خطيبها عملها، وبالإضافة إلى مصروفات أخى الصغير فى الدراسة، وأساعد والدى الذى يعمل "على دراعه" بصنع الشاى والقهوة فى أحد المواقف القريبة مننا.
وتحلم مريم باستكمال دراستها، ولكن عناء ديون ومصروفات أسرتها، تحول بين تعليمها وتقول: "لو مدرسة تقبل تاخدنى بعد الشغل ياريت، نفسى أكمل تعليمى".
وتحكى هدية عبد الرازق: "عندى 14 سنة، خرجت من المدرسة، لعدم قدرة أهلى على دفع مصاريف زائدة عن احتياجاتهم، فلدى 4 بنات يعملن فى مصانع ملابس، وأخ يعمل باليومية فى حمل الأسمنت تارة والرمل والطوب تارة أخرى، ولا يكفى عمل والدى أو صحة أمى، تحمل المزيد من المصروفات، لذا تركت المدرسة، خاصة وأن والدتى مدينة بتسديد ما عليها من مديونيات لصاحب محل الأجهزة الكهربائية والأدوات المنزلية التى اشتريت منه، ما يعجل من زواج إخوتى البنات، فقررت العمل بمصنع السجاد القريب من منزلى بأبيس للمساهمة فى سداد هذه الديون، حتى لا تسجن والدتى التى وقعت عشرات إيصالات الأمانة.
وعن نصيب هدية فى راتبها الذى تعمل من أجله طوال الشهر منذ السابعة صباحا وحتى الخامسة مساء، تقول: "الفلوس كلها لأمى تسدد ديونها وتشارك بالمتبقى منه فى جمعية تجهز بها إحدى البنات، ويكفينا طاعة كأكلة حلوة لندر السداد".
أما الطفلة مى كامل، فقد تحملت المسئولية الثقيلة وهى فى عمر الـ12 سنة، فقررت الخروج من المدرسة والتسرب من التعليم، منذ 4 شهور فقط، حينما سقط والدها قعيدا فى حادث أثناء عمله، جعله يلازم الفراش، ولأنه كان عامل يومية لا أمان له ولا معاش، اضطرت مى وهى أكبر أخواتها الخمسة، ترك الدراسة والعمل من أجل توفير نفقات علاج والدها ومصاريف بقاءه فى المستشفى، بينما تبقى مصاريف إطعامهم لجدتها التى يعيشون معها.
وتحكى أمل البالغة من العمر 14 سنة قصتها قائلة: "والدى يعمل ممرض فى أحد المستشفيات الحكومية، وراتبه لا يكفى مصاريفنا أنا وأخواتى الأربعة، ولأن بنات عمى يعملون هنا منذ وقت طويل، اقترح والدهم على والدى، بالذهاب معهم، وبالفعل بدأت العمل منذ شهرين، وتركت المدرسة حتى أستطيع أن اتابع العمل بانتظام، وأصبحت أتقاضى 500 جنيه شهريا وقد تزيد حسب العمل الذى أنهيه.
أما ولاء عبد الستار، فهى طفلة لم تتجاوز بعد الثانية عشرة عاما، تشارك أخواتها العمل، من أجل سداد ديون شقيقتهم الرابعة، التى تزوجت وتركت ديون جهازها تطارد والدتها التى استدانت من بائع المفروشات بالقسط، ووقعت على إيصالات أمانة بآلاف الجنيهات.
وتقول ولاء: "أختى كانت تعمل قبل الزواج، لكن زوجها رفض عملها بعده، وأخويا يعمل فى بيع الخضروات، بالأسواق، وأنا أحصل على 550 جنيها شهريا، أساهم بهم فى عملية السداد.
وتكمل ولاء: "لم يكن منطقى أن أكمل دراستى، وأمى على وشك دخول السجن، بسبب الديون، ولا يوجد عمل يقبل حضورى بعد دوام الدراسة، لكن حزينة بالطبع لتركى المدرسة، ويزداد حزنى برؤية زميلاتى يحملن الحقائب المدرسية رغم وثقلها".
أما فاتن حربى، فهى تعمل منذ 4 سنوات حين بلغت العاشرة، لتساعد فى ظروف عائلتها التى تدهورت، بعد أن أصيب والدها بفيروس سى، وبعدها هاجمته أمراض الكلى، وجعلته جليس الفراش لا يقدر على شئ، وبما إنى المسئولة فى البيت بعد أن تزوجت أختى الكبرى، كان على العمل لسداد ديونها التى لا تنتهى بسبب الفوائد، ومساعدة أسرتى فى تربية أختى الصغيرة واستكمالها تعليمها التى حرمت منه.
أما حكاية أسماء فهى مختلفة تماما عن باقى الحكايات، وإن جمعتها ظروف الحاجة والفقر، فهى ابنة وحيدة أب وأم انفصلا وتركهما والدهما دون أى مساعدة، فتخلت أسماء وعمرها 14 سنة عن دراستها وتعليمها، لتعين والدتها على ظروف الحياة الصعبة، فتحصل على راتبها لتعطى لأمها فتدبر حالهم بـ500 جنيه فى الشهر، وتدخر منهم أيضا لجهاز زواجها، الذى قد يكون فى القريب العاجل.
أما رحمة التى وإن كانت تقتسم مع شقيقتها التوأم، مذاكرة الدروس التى كانوا يحصلون عليها، فقد كانت تأخد مادتين وشقيقتها مادتين، ثم يتذاكر أنها سويا، وعلى الرغم من كل هذا لم تسمح لهم ظروف الحياة الصعبة، البقاء فى المدرسة، فتركوها من أجل العمل وكسب الرزق الحلال لأسرتهم، واحترفوا صناعة السجاد اليدوى والكليم، وأصبحت رحمة تساعد والدها الذى يعمل بائعا متجولا وحسب رزقه تنعم حياتهم ـو تخشن، ولكن لا تكفى وحدها، فقد يعمل والدها يوما ويغيب شهرا عن العمل، ولديها 5 أخوات، تزوجت الكبيرة فيهم، وتركت الديون التى يسددونها.