وجه حديثه الى قائلا : " انتى " من مصر ؟
إلتفت حولى معتقدا أن الرجل الثمانينى ذو البشرة الحمراء الذى يجلس على كرسى فى حديقة عامة بالقرب من معبد " أكربوليس " أشهر معابد الأثرية فى أثينا باليونان ، يحدث أحدا غيرى .. ولكنه اعاد السؤال موجها حديثه لى ومشيرا الى بعصاة يتكىء عليها : " إنتى .. إنتى ".
-بعد تردد وبابتسامة يغلب عليها علامات الإستفهام قلت له : أيوه مصرى .
رد الرجل ، وقد انفرجت أساريره ، وجرت الدماء فى عروقه وقال : أنا كمان مصرى ، أنا اسكندرانى ، مواليد حى الجمرك .
تركت الرجل يتحدث ، كان يريد ان يتحدث ، ورغم أن اللغة العربية " المكسرة " كانت حاضرة ، وغابت عنه أغلب مفرداتها ، واستعان بحركات تمثيلية لكى يحكى لى حكايته ، وكيف أنه قضى صباه وشبابه ، فى شوارع الإسكندرية ، وكيف أنه يحفظها كما يحفظ كف يده .. وكيف أنه يحفظ أغانى أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وشادية عن ظهر قلب ..وكيف أنه من عشاق الرقص الشعبى المصرى .
وفجأة توجه الى بسؤال : " إنتى " تعرفى ايه الفرق بين رقص سامية جمال ، ورقص تحية كاريوكا ؟! أنا أعرف !
استغربت السؤال وكان ردى بابتسامة وهزة كتف .
لا أتذكر اسم الرجل ، ولكن كل ماأتذكره هو عشقه اللامحدود لتراب مصر ، هى بالنسبة له الجنة التى أخرج منها هو واسرته رغم أنفهم ، وترك عمره وذكرياته ، هناك فى شوارع الإسكندرية التى قال لى قبل أن أتركه " اسكندرية مارية " .
هذا " الخواجه " الذى قابلته فى أثينا قبل سنوات ، قابلت أمثاله فى الكثيرين فى شتى أنحاء العالم .
قبل عشر سنوات تقريبا كانت مصر ، ممثلة فى فرقة للفنون الشعبية ، ضيف شرف فى معرض فى سويسرا ، وارتأت ادارة المعرض أن يقدم المطعم الأساسى للمعرض أكلات مصرية ، وهو ما حدث بالفعل ، وتصدت لهذا الأمر شركة مصرية يمتلكها مهاجر سويسرى من أصول مصرية اسمه أشرف على ما أتذكر.. المهم وجدت من بين الحضور سيدة تعرفت على كل أعضاء الفرقة تقريبا ، وراحت تلتقط معهم صورا تذكارية ، تحدثت إليها ، وحكت حكايتها مصحوبة بدمعات هربت من مقلتيها ، وهى تستعيد ذكرياتها عن حى " الضاهر " الذى ولدت به وكبرت وعن مدرسة " السكركير " التى تعلمت فيها وعن المستشفى القبطى الذى كان والدها يعالج فيها ، وكيف اضطرت الأسرة الى " الهروب " من مصر مع آلاف الأجانب الذين هربوا بسبب اجراءات " ناصر " .
قالت السيدة : ظلت علاقاتى ممتدة بكل صحباتى اللاتى ولدت معهن ، ولعبت معهن فى شوارع " الضاهر " وظلت التليفونات ممتدة ، حتى انقطعت ، " اللى مات مات " والأبناء والأحفاد لا يعرفوننى .. والأن أنا أعيش أسيرة الماضى المحبوس فى شوارع القاهرة .
واختتمت حديثها لى بقوله : أنا موش خواجاية ..أنا مصرية.." زيى زيك "..هل تصدقنى لو قلت لك أننى أتمنى عندما أموت أن أدفن فى مصر؟!!!
حالة ثالثة قابلتها فى سان فرانسيسكو ، ولكنها كانت لمصرى يهودى الديانة ، حكى حكايته هو الآخر ، وكيف أنه وأهله يعيشون أسرى عشق مصر التى ولد فيها – زى أى مصرى على حد قوله – وكيف أن اسرته اضطرت للهروب من مصر بعد حرب 67 خوفا على حياتهم ، ذهبوا فى البداية لعدة سنوات الى فرنسا ، ومنها كانت أمريكا المحطة الأخيرة .. قالى لى : زرت مصر عدة مرات ، ولكن بصفتى أمريكى ، وذهبت الى مكان العمارة التى كنا نعيش فيها ، وكانت أربعة أدوار، فوجدتها لم تعد موجودة ووجدت مكانها برجا عاليا .
هذه الحكايات تلخص حال مئات الآلاف من أبناء الجاليات التى استوطنت مصر نهاية الفرن فبل الماضى ومطلع القرن العشرين ، ووجدت فيها كل أسباب الإستقرار : من شعب غير عنصرى ، يرحب بالغريب ،ويكرم ضيافته ، إضافة الى أسباب تاريخية هذا ليس مجال ذكرها ، مثلما حدث مثلا مع الأرمن الذين هربوا من إبادة الأتراك العثمانيين لهم ، ووجدوا فى مدن وقرى مصر ملاذا آمنا ، فيها يعيشون ، ويستثمرون ويعمرون ، الى الحد الذى أصبحت فيه هذه الجاليات جزء لا يتجزء من نسيج المجتمع المصرى .
الأمر قد يبدو غريبا عليك وعلى الآن ، ولكن متابعة سينما النصف الأول من القرن الماضى ستكشف لك مثلا أنه لا يكاد يخلو فيلم من وجود صاحب محل بقالة يونانى أو حلاق أرمنى ، أو ريجيسير " طليانى " وستجد أن الغالبية العظمى من راقصات الأفلام الاستعراصية ، والكومبارس كن من بنات الجاليات الأجنبية ، ووصل الأمر الى خلق شخصية مثل شخصية "الخواجة بيجو " على يد الفنان العظيم الراحل فؤاد راتب لتجسيد شخصية الخواجة اليونانى ، الى الحد الذى لا يعرف أغلبنا اسمه الحقيقى .
مبادرة العودة الى الجذور ،التى أطلقتها وزارة الهجرة ، ورعاها الرئيس عبد الفتاح السيسى بذكاء يحسد عليه ، لا يجب أن تقف عند هذا المرحلة الجميلة ، ولكنى أرى أنه يمكن تطوير ورعاية هذا البذرة ، وتحويل أبناء وأحفاد هؤلاء الذين عاشوا فى مصر الى " لوبى " يتبنى وجهة النظر المصرية ويدافع عنها ، كما يمكن لوزارة السياحة ان تقوم بعمل برامج سياحية تستهدف هؤلاء لربطهم بهذا الوطن الذى على أرضه نشأوا وترعرعوا وتربوا .. يجب ان تبحث مصر عن ابنائها " الخواجات .
عدد الردود 0
بواسطة:
جــورج ســــامى
أنه إبن مصر البار فخامة الرئيس المحترم عبد الفتاح السيسى
كم أنت رائع سيدى الرئيس ولست أندهش من كارزمتك التى تسيطر على كل من تقابلهم أو حتى يشاهدونك على التلفزيون ... أعمالك وأفكارك تخطت حدود المتعارف عليه وأصبحنا ننتظرك يوميا لتبادر دائما بأفعال "الخير" لتطفىء لهيب وسعير نار ما يفعله "اهل الشر" ... هنيئا لك سيدى بمحبة المصريين وإعجاب وإحترام غير المصريين .