بعد ثورة 30 يونيو 2013 فى مصر تراجعت حركة النهضة الإخوانية فى تونس إلى الوراء خطوات كثيرة، خوفاً من أن يلقوا نفس مصير إخوان مصر، ووقتها تعامل راشد الغنوشى، زعيم الحركة بذكاء شديد، لأنه غاب عن الواجهة السياسية، وقرر أن يكون فى الخلف، سواء فى الحكومة أو البرلمان التونسى، حتى تمر العاصفة، كما كانوا يصفونها، فى إشارة إلى الغضب الشعبى العربى من الإخوان.
تراجعت النهضة لكن الغنوشى أبدا لم يتراجع، فقد كان يخطط فى الكواليس حتى يهيئ الساحة لعودة قوية، وهذه المرة ليس فقط عن طريق الحكومة التى سيطروا عليها لعامين تقريباً، قبل أن ينتخب التونسيين الباجى قائد السبسى رئيساً للجمهورية، فاليوم راهن الغنوشى على الانتخابات البلدية، واعتبرها بمثابة جس نبض التوانسة تجاه النهضة، فإذا فازت الحركة بنصيب أوفر فسيكون ذلك إشارة للغنوشى ورجاله للاستعداد من الآن للانتخابات الرئاسية التى ستحل بعد عامين، وإن استمرت الحركة فى التراجع شعبياً فسيعيدون التفكير فى مستقبلهم السياسى.
جس النبض امتد أيضاً بإطلاق تصريحات تحمل أكثر من معنى، وانتظر الغنوشى حتى يسمع كل ردود الفعل، وهل يدفع بنفسه مرشحاً للرئاسة أم ماذا سيفعل، فالغنوشى قال قبل أيام «أمامنا سنتان للحسم فى موضوع الترشح للرئاسة فى تونس، ولكن من المرجح أن يتمّ التداول فى هذا الملف بعد الانتخابات البلدية، وسيكون مطروحًا داخل هياكل الحركة ومجال حوار لاتخاذ سياسة حوله»، واعتبر الغنوشى أنه على ضوء طريقة إدارة حملة حزبه للانتخابات البلدية فهو المرشح الطبيعى لحزبه، خاصة أن لائحة الحزب تمنحه حصرياً أحقية الترشح للرئاسية، وتابع قائلًا: «قانون حركة النهضة التونسية يقول إن المرشح الطبيعى للنهضة هو رئيس الحركة، وهو موجود فى النظام الداخلى، ولكن تنزيله فى الواقع ليس آليًا».
ما قاله الغنوشى يفهم منه أنه شبه حسم أمره فى الترشح للرئاسة، وأنهم فقط ينتظرون نتيجة انتخابات البلدية التى لا أعتقد أنه سيكون لها دور فاعل فى القرار الإخوانى التونسى، لأن الغنوشى ومن خلفه منظمات ودول إقليمية يدفعون باتجاه ترشحه، الكل يريد استغلال الوقت الذى يعتبرونه الآن مناسباً لكى يقفزوا على الرئاسة التونسية، وأملهم أن تكون تونس نقطة العودة مرة أخرى للإخوان إلى الحكم فى بقية دول المنطقة، رغم يقينهم أن هذا السيناريو مستبعد، تحديداً فى مصر التى لفظت الإخوان للأبد، وليس هناك أى مجال لمجرد الحديث عن عودتهم للمشاركة السياسية، وليس الترشح أو العودة إلى صدارة المشهد السياسى، لأن ما يقوم به قيادات وأعضاء الجماعة الإرهابية بتمويل وتنفيذ عمليات إرهابية ضد الشعب المصرى وضعت نهاية الجماعة شعبياً ورسمياً، لكن الغنوشى مازال يرادوه الأمل.
هو يفكر ومن خلفه تركيا وقطر، بأموالهم وأذرعهم الإعلامية والسياسية، لكن الغنوشى يدرك فى الوقت ذاته أن الأمر بالنسبة له معقد، لأن تونس ليست خارج المعطيات الإقليمية كما قال: «الترشح للرئاسة فى تونس، أمر تتداخل فيه معطيات عديدة، منها طبعًا ما هو محلى، لكن هناك أيضًا ما هو إقليمى ودولى.. تنزيل هذا المبدأ له حسابات الزمان والمكان»، لكنه سيحاول من الآن عقد صفقات داخلية وإقليمية عله يجد لنفسه مساحة من القبول، آخذاً فى الاعتبار أن الغنوشى استغل الانتخابات البلدية واعتبرها بروفة لحملته الرئاسية، بل إن أصدقاء من تونس قالوا إن الغنوشى دشن فعليا حملة انتخابية رئاسية سابقة لأوانها معتمداً على الحملة الانتخابية للنهضة، حيث كان زعيم الحركة أكثر شخصية سياسية طافت تونس خلال الحملة، كما شارك فى اجتماعات حزبية شملت 36 دائرة بلدية بمختلف المحافظات، وهو ما مكنه من شرح رؤيته لأكبر عدد من التونسيين، وفى نفس الوقت استطلاع رأيهم فى مسألة ترشحه للرئاسة.
الواقع يؤكد أن النهضة حسمت أمرها، وأن الغنوشى سيكون مرشحها للانتخابات الرئاسية فى تونس العام المقبل، لكن هذا لا يعنى أنه سيفوز، لأنه حتى فى ظل تراجع شعبية السيسى، لكن التونسيين لن يستبدلوه بالإخوان، وهم يدركون أن الإخوان لا أمان لهم، كما أن الفترة التى قضاها الإخوان فى رئاسة الحكومة كانت مأساوية بكل المقاييس، وشهدت تراجعا فى كل المستويات، فضلاً عن أن صعود الغنوشى للرئاسة يعنى أن تونس ستعانى على الأقل إقليمياً، لأن دولاً كبرى فى المنطقة لن يسعدها أن تتعاون مع رئيس إخوانى، مهما كانت البروباجندا التى تثار حوله من نوعية أنه إسلامى معتدل أو إسلامى مدنى شبيه بأردوغان تركيا، لأنه حتى فى ظل هذه البروباجندا فإن التوانسة لا يسعدهم أن يحكمهم شبيه لرئيس تركيا الديكتاتور.