هذا أمر يدعو إلى الدهشة والتعجب، ففى الوقت الذى يتحمل فيه المواطن المصرى أعباء الحياة صابرا مجاهدا مجتهدا، ينفق فيه على رفاهية شعوب أخرى ويسهم فى تحسين أحوال معيشتهم وتدعيم صحتهم وتعليمهم ومشروعاتهم التنموية وخططهم الاستثمارية، نعم كل هذا يحدث منذ سنوات ويتضاعف سنة بعد سنة، فمواقع التواصل الاجتماعى ومحركات البحث تعمل جاهدة على جلب الإعلانات من مصر، التى تعد بحسب غالبية الدراسات المتخصصة، القبلة الأولى للإعلانات فى الشرق الأوسط والمنطقة العربية، وفى كل يوم تنمو خزينة هذه المواقع وتنتعش، وتغذى بأرباحها وضرائبها بلاد الملاذات الضريبية وأشهرها "أيرلندا"، التى تفرض رسوما منخفضة على أرباح هذه الشركات، وبالتالى حولت هذه الشركات أرباحها وضرائبها عليها، بينما يخرج المصريون من المولد بلا حمص.
تبذل مصر الغالى والنفيس فى معركة التحديث، تنفق على بنيتها التحتية، تمد خطوط التليفونات إلى القرى والنجوع، تحدث بنيتها الأساسية لتطوير منظومة الاتصالات، تمد كابلات الشبكة العنكبوتية إلى البيوت، كل هذا يتم من أموال دافعى الضرائب، لتأتى فى النهاية كبرى الشركات التكنولوجية فى العالم لتحصل على كل هذا دون مقابل، نعرف نحن ويربحون هم، نتعب نحن ويستريحون هم، نشقى نحن ويتنعمون هم.
كل هذا كان لا بد له من نهاية، كل هذا كان يجب أن يتوقف، وهو ما حدث أمس فى البرلمان المصرى الذى أقر فى إحدى مواد قانون تنظيم الصحافة على أنه "لا يجوز فى جميع الأحوال لأى موقع إلكترونى جلب إعلانات من السوق المصرية، ما لم يكن مقيداً بالمجلس الأعلى، وخاضعاً لأحكام القانون رقم 11 لسنة 1991 بشأن التهرب الضريبى"، وهو الأمر الذى من شأنه أن يعيد هذه الأموال إلى المصريين وأن يصحح وضعا كان مقلوبا.
وبحسب تقدير بعض الخبراء فإن الفوائد التى ستعود على مصر بعد تطبيق هذا القانون ستصل إلى مليار جنيه سنويا، وهو مبلغ كبير يكفى وجوده للمساعدة فى تحسين الخدمة التعليمية أو فى تحسين الرعاية الصحية، ويجب هنا أن نقول إن مصر تأخرت كثيرا فى وقف نزيف العملات الصعبة التى تحصل عليها هذه المواقع مقابل الإعلان لديها، فقد سبقتنا أستراليا التى طبقت قانونا العام الماضى مخصصا للشركات متعددة الجنسيات، لإجبار شركات التكنولوجيا مثل جوجل وفيس بوك على دفع الضرائب فى أستراليا على أساس الإيرادات التى يحققونها فى البلاد بدلا من تحويل الدخل إلى الدول ذات الضرائب المنخفضة، ولم تخجل أستراليا من إطلاق اسم "ضريبة جوجل" على هذا القانون، وبحسب تصريحات "سكوت موريسون" وزير الخزانة الأسترالى فإن هذا القانون سيسهم فى تلقى الدولة نحو 2 مليار دولار أسترالى أى ما يعادل 1.5 مليار دولار أمريكى سنويا، كما سبقتنا أمريكا التى قاضت صاحب فيس بوك متهمة إياه بالتهرب الضريبى، أما بريطانيا فقد لجأت فى العام الماضى إلى سن تشريعات جديدة واستحداث إجراءات جديدة تهدف إلى وقف تهرب عمالقة شركات التكنولوجيا مثل أبل وجوجل من دفع الضرائب.
تلك الانتفاضات المتقطعة من الدول الغربية تبلورت فى الربع الأخير من العام الماضى، حيث اجتمع الاتحاد الأوروبى من أجل تغيير بعض القواعد لفرض المزيد من الغرامات الضخمة على شركات التكنولوجيا، وقال وزير المالية الاستونى الذى كان يتولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبى لمدة ستة أشهر: "فى هذا العصر الرقمى لم يعد نظام الضرائب الحالى لم ساريا، ولهذا السبب يتعين علينا إيجاد حل آخر"، وهو الشعار الذى أرى أنه من الواجب تطبيقه الآن فى مصر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة