الذين يركبون المترو يحفظون تقريبا وعن ظهر قلب، الحالات المحترفة لسيدات ورجال يقدمون عرضا مؤثرا على جمهور المترو، وينجحون دائما فى جذب أنظار وقلوب راكبين عابرين، لا يعرفون حقيقة هؤلاء المحترفين.
الركاب، وبالرغم من أنهم يعانون كثيرا كأعضاء فى الطبقة المطحونة، يظهر منهم من يتاثر أول مرة بحالات السيدات القادرات على تقطيع القلوب بحكايات تتكرر طوال سنوات، وهى حالات يحفظها ركاب المترو المحترفون، وكل حالة من الحالات التمثيلية تقسم بأغلظ الأيمان إنها لا تكذب.
السيدة التى تبدأ بالقسم إنها صادقة وإنها لا تكذب وإن ابنتها تعانى من أنيميا البحر المتوسط ثم تذكر اسما بالإنجليزى، وغالبا ما تحشر مصطلحات مثل الليشمانيا والباركوتيا.
السيدة التى تغطى وجهها تبدأ فى الحديث بصوت متهدج ملؤه الحزن، أن ابنها أو ابنتها تحتاج لنقل دم الساعة الثانية بعد الظهر، لا تعرف لماذا الساعة اتنين لأن بنك الدم يغلق الساعة 3، وتقول إن تكلفة الكيس 480 جنيها، وللحق فإنها، أى السيدة الأم، معها 180 جنيها من هذا المبلغ.
أول مرة سمعت هذه القصة تأثرت ومثل أى عابر جديد فقد دفعت تأثرا، ومع مرور الشهور والسنوات نكتشف أن ابن أو بنت السيدة لم تخف وأنها معها 180 جنيها من ثمن الأكياس ومعها مناديل تريد أن تبيعها.
وفى كل مرة هناك ركاب عابرون أو جدد يدفعون تحية لهذه الممثلة التى تنجح فى تقديم عرضها الذى تتفوق فيه على نجمات النكد والحزن والميلودراما.
أما الركاب الدائمون فهم حفظوا السيدة وقضىة ابنتها طوال خمس أو ست سنوات ويعرفون أنها تكذب وأنها متسولة ومعها عشرات الآلاف من وراء قصة ابنتها.
قصة أخرى لسيدة ابنتها تعانى من الفشل الكلوى وتنتظر جلسة غسيل وزوجها ميت وأبناؤها مرضى، السيدة مثل السابقة معها أوراق وتصرخ بكل أداء ميلودرامى أن معها عنوان الابنة والمستشفى لمن يريد التأكد.
وطبعا القصة كلها مختلقة والسيدة متسولة محترفة يعرفها أمن المحطات والمترو، وهى واحدة من عشرات المتسولين الذين يمارسون التمثيل والكذب باحتراف وحفظ للأسماء والأمراض، ومع هذا يتنقلون رهانا على أن أحدا من الركاب المحترفين لن يصرخ أنها كاذبة أو يطلب منها عنوان المستشفى.
ومن قصة الأنيميا والفشل الكلوى، هناك قصص لأرملة تريد تزويج ابنتها منذ خمس سنوات، وأخرى زوجها مريض بالكبد أو السرطان، وكل منهما تجد من يصدق ويدفع وتراهن على قلوب الركاب الطيبين، وصمت المحترفين، وطبعا لا يتم ضبط المتسولات ولا المتسولين الذين يسيرون بسيقان محروقة وأياد مربوطة ويجرون أكياس دم وصديد مقززة.
هذه القصص التى أعرفها ويعرفها غيرى وأحفظها طوال خمسة وعشرين عاما وأكثر لنصابين ومتسولين يبتزون المارة، ينتشرون فى المواصلات العامة بشكل مختلف يخترعون طرقا وقصصا تنجح أحيانا كثيرة، وليس من بين هؤلاء فقير أو مريض، بل إنهم أثرياء وأغنى من أى راكب ومن أى عابر ممن يدفع لهم، وكل فترة نكتشف حالة لمتسولة مليونيرة أو متسول وجدوا بعد رحيله مئات الآلاف من الجنيهات.
وكل من هؤلاء يمتلك مهارات تمثيلية قوية تنجح فى استدرار عطف المارة والمواطنين، ومع ذلك لا يتم القبض عليهم ولا مطاردتهم بالرغم من أن هؤلاء يأخذون حق الفقراء فعلا.
والفقراء غالبا ما تكون لديهم عزة نفس وكرامة تمنعهم من أن يطلبوا أو يتسولوا، ونشاهد يوميا مئات من بائعات الفجل والجرجير، أو السيدات اللائى يحملن حملا ضخما من الخبز أو الجبن لبيعه بربح بسيط، أو رجال يقفون فى الشمس لساعات انتظارا ليومية. كل هؤلاء فقراء لكنهم لم يتحولوا إلى متسولين محترفين.
نحن أمام مهارات تمثيلية تختلف وتتطور، ومن واقع المهارات التمثيلية هناك، أيضا إعلانات متنوعة تنجح فى جذب أموال المواطنين وانتزاعها من جيوبهم، ومنها إعلانات تقدم بشكل احترافى وتلعب على وتر الإنسانية، وليست كلها تقدم ما يمكن التعويل عليه.
نحن أمام المؤسسات التى تجمع تبرعات وتقدم خدمات معروفة، لكن مع الوقت أصبحت الإعلانات لبعض هذه المؤسسات احترافية على طريقة المترو تراهن على قلوب بيضاء، لكنها تأخذ حق الفقراء والمحتاجين فعلا لمجرد أنها تستطيع تقديم فقرات وإعلانات مؤثرة، بينما هناك مستشفيات لا تملك القدرة على استدرار عطف وقلوب المشاهدين لأنها بلا أموال، وهؤلاء الذين تحسبهم أغنياء من التعفف. لكل هذا ربما نكرر أننا بحاجة لطريقة أخرى يمكننا أن نقيم عملا أهليا تطوعيا تذهب فيه الأموال لمن يستحقها، وليس لمن يمكنه انتزاعها بفقرات تمثيلية.