فى إحاطته بالمذاهب الفقهية حجة ومرجع وعلامة مضيئة فى تاريخ العلم ومذاهبه، وفى منهجه العلمى الرصين الجامع خير مثل لما ينبغى أن يكون عليه العلماء، وفى فهمه لقواعد الفقه وتنظيراتها ما أعجز أقرانه وأثار فى قلوبهم الغبطة والإعجاب فى آن واحد، إن أردت أن تعرف الرسول حق معرفته فاقرأ كتابه «خاتم النبيين»، وإن أردت أن تعرف المذاهب الإسلامية وظروف نشأتها، تاريخ أصحابها وقواعدها وتجديداتها، فاقرأ كتبه الثمانية عن أئمة الفقه «جعفر الصادق وزيد ومالك والشافعى وأبوحنيفة وابن حنبل وابن حزم وابن تيمية»، وإن أردت كتابًا واحدًا يجمل لك كل هذا فاقرأ كتابه «محاضرات فى تاريخ الفقه الإسلامى»، وإن أردت أن تعرف الإسلام مقارنة بالأديان الأخرى ومدى تقديره لآثارنا المصرية العظيمة فاقرأ كتابه «الديانات القديمة» أما إذا أردت أن تعرف معانى القرآن الكريم وتفسير آياته فاقرأ «زهرة التفاسير» وهكذا فى كل كتبه الكثيرة التى تقترب من الثلاثين، والتى على قدر تنوعها وكثرتها تتميز بالإحاطة التامة والمعرفة الواسعة والبحث الدؤوب، وهو الأمر الذى أعيا خصومه وأتعب أقرانه، وبرغم أن له العديد، فقد كان رحمه الله وأثابه بحق كتيبة من الفقه الملتزم الجسور، وعمدة الفقهاء وإمامهم.
ولد الإمام محمد أبو زهرة فى المحلة الكبرى، وطوال حياته كان علمًا فى شهرته وجاذبيته للتلاميذ والمريدين، ويذكر الدكتور محمد رجب البيومى، أن أحد الحكام تضايق من شهرة أبوزهرة برغم ما يمارسه ضده من اضطهاد فأتى به ليقول له إنه «إقطاعى» وأن كتبه تدر عليه أموالًا أكثر مما يتقاضيه الوزراء، فقال له الإمام: هى مؤلفات كتبت لله ولم تفرض على أحد، ولم تتول الدولة توزيعها قهرًا على المكتبات ودور الثقافة الحكومية، ولما لاحظ هذا الحاكم الذى لم يسمه «البيومى» ولم أستدل عليه أن الشيخ معتد بنفسه واثقًا من منطقه أنهى الزيارة سريعًا.
ولأن الإمام كان من المستغنين عن عطف الحكام وموائد اللئام، رزقه الله قوة فى الحجة والبرهان وشجاعة فى إبداء الرأى لم تتوافر فى غيره، غير مبال بتبعات رأيه أمام حاكم ولا فقيه مهما علا أو تجبر، ويحكى ويذكر «البيومى» واقعة تبرز مقدار ما كان يتمتع به العالم الأكبر من شجاعة وحزم، وهو أن الإمام كان مدعوًا لمؤتمر إسلامى يضم أشهر علماء عصره فى إحدى الدول العربية التى لم يسمها البيومى ولكنى عرفت أنها ليبيا فوقف القذافى رئيس ليبيا السابق ليقول فى افتتاح المؤتمر «إن على العلماء أن يثبتوا أن الإسلام لم يعترف بغير الاشتراكية مذهبًا، وأن الاشتراكية «الحق الوحيد الذى لا ثانى له»، ولما انتهت كلمة القذافى سكت العلماء متحيرين فطلب أبوزهرة الكلمة فقال موجهًا حديثه للقذافى:
«إننا نحن علماء الإسلام الذين يعرفون حكم الله فى قضايا الدولة ومشكلات الناس، وقد جئنا هنا لنصدع بالحق بما نعرف، فعلى رؤساء الدول أن يقفوا عند حدودهم فيدعون العلم إلى رجاله ليصدعوا بكلمة الحق، وقد تفضلت بدعوة العلماء لتسمع أقوالهم لا لتعلن رأيا لا يجدونه صوابا مهما هتف به رئيس، فلنتق الله فى شرع الله. ولما انتهى الإمام من كلمته انتظر القذافى أن يرد عليه أحد، فلما أيده أغلب الحاضرين رحل القذافى عن المؤتمر وكانت جلسة افتتاحه هى جلسة ختامه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة