كرة القدم لعبة جماهيرية، ومع الوقت أصبحت صناعة تدور فى دواليبها مئات المليارات.. الجمهور يتعامل بقلبه، والكبار فى صناعة اللعبة يراهنون على جيبه، ويلعبون على عواطفه.. الجمهور الذى يقف خلف فريقه، ويراهن على خطوة للأمام أو هدف فى مرمى، ونتيجة تعادلية وتنافسية.
عندما بدأنا نتابع كأس العالم منذ السبعينيات كنا مجرد متفرجين، وحتى عندما شاركت مصر عام 1990 لم تكن لعبة كرة القدم وصلت إلى الوضع الحالى للاحتراف، حيث أصبحت جزءًا من ماكينات وآليات العولمة والاقتصاد العالمى، وبقدر ما تبقى الكرة للجمهور حالة خاصة من الانفعال والتشجيع والانحيازات، تعنى أمرًا آخر لأعضاء الاتحادات والفرق والشركات الراعية ومنتجى الملابس والأحذية الرياضية.
«إن كرة القدم الاحترافية تحول اللعب إلى استعراض فيه قليل من الأبطال وكثير من المتفرجين، وهى واحدة من أكثر الأعمال التجارية ربحًا فى العالم»، كما كتب إدواردو جاليانو فى كتابه «كرة القدم بين الشمس والظل»، تقف خلف سحر الكرة صفقات المضاربة والتجارة، والجمهور نفسه يدفع ثمن انفعالاته وانحيازاته.
الكرة بالنسبة للجمهور ليست درسًا فى الفيزياء، ولا هى مجموعة معادلات كيميائية يمكن أن تتوقع من تفاعل حامض وقلوى ملح وماء، بل هى خليط من العواطف والانفعالات و«الهبل والحب والكراهية»، والخصومة والمنافسة، وهى أمور لا تحكمها قوانين، ولا قواعد، بل تحكمها العواطف، ترفع الجمهور إلى قمم التعصب، وتعيده قيعان الإحباط.
أسرار غير مفهومة ولا علاقة لها بالأيديولوجيا، لماذا حظى الخطيب بحب ونجومية أكثر من معاصريه؟، لماذا يظل محمد صلاح حالة خاصة من بين عدد كبير من المحترفين فى الخارج؟، كلهم نجوم لكن يبقى لدى صلاح وجود خاص وحضور يتجاوز العقل إلى العاطفة، وشىء ما غامض، تسمع «فلان فيه شىء لله»، حتى لو كان غامضًا يرفضه العقل والمنطق.
صحيح الكرة علم وتدريب، لكنها فى الأساس مواهب لا علاقة لها بالعقل، بدليل أن فقراء يظهرون ويلعبون وأبناء أثرياء يفشلون، ديمقراطية الكفاءة ومساواة وتكافؤ فرص، وأيضًا مصادفات تأتى لمن يوجد فى مرماها، الذى يشجع فريقًا ينحاز له بلا عقل، يبحث عن مبررات للفشل والخسارة، والتعصب والمبالغة «الأفورة»، هناك علماء وشخصيات عامة تتخلى عن عقلانيتها عندما تجلس فى صفوف الجماهير، أمام الشاشة أو فى المدرج لا يمكن البحث عن العقل والمنطق.
أصل اختيار اللاعب يقوم على موهبة، بمعنى أنه لا يمكن إنتاج لاعبين محترفين فى ناد مغلق أو مصنع، البداية أن يكون اللاعب موهوبًا أولًا، فيه هذه اللمسة والشىء الذى يجعله موهوبًا، وهو أمر لا يتعلق بالمذاكرة واستيعاب الدروس مثلًا، أغلب اللاعبين عمومًا ليسوا من المتفوقين مع وجود استثناءات، وعليه فإن التدريب والتخطيط واللياقة هى أمور مساعدة، لكن الأصل الموهبة، محمد صلاح مثلًا بلمساته وتحركاته وطغيان كاريزما اللاعب لا علاقة لها بتفاصيل يمكن حسابها إحصائيًا أو علميًا.
الجمهور مايزال هو العنصر الحاسم، يرى كرة القدم لعبة تقوم على المنافسة، واللاعب لا يمكنه اللعب بالواسطة أو الوراثة، والأفضل يفوز غالبًا، مع حساب نسبة المصادفات، وبالتالى فإن هناك دائمًا أملًا لدى كثيرين فى أن يدفعوا بأبنائهم إلى أن يصبحوا فى سباقات اللعبة، وتغير صورة الاحتراف من المثل الأعلى لدى قطاعات من الشباب.. الصعود من دون الحاجة إلى جهد كبير، فقط تفجر موهبة مثل آبار البترول فى أرض الدول.
وبالتالى فإن من يطرح أسئلة من عينة: لماذا نذهب للمونديال؟ ماذا نريد من المشاركة؟، يبحث عن إجابات لأسئلة صعبة تتعلق بالقدرات والإرادة ومدى الاستعداد، لكنها تصل إلى الجزء الآخر من اللعبة، وهو الجانب الاقتصادى والتسويقى.
كرة القدم على جانب آخر، وقد ظلت اللعبة الأكثر شعبية فى العالم، إلا أنها لم تعد لعبة الهواة، وأصبح اللاعبون سلعًا تباع وتشترى للأعلى سعرًا، وأصبح هناك لاعب يصل سعره إلى مئات الملايين من الدولارات، فقد أصبحت استثمارًا عالميًا وليس محليًا، والمنافسة على اللاعبين والفرق تترجم إلى مليارات، وتقف وراءها شركات وتحالفات اقتصادية وسياسية واسعة، لا تبتعد كثيرًا عن أعمدة الاقتصاد فى العالم واللاعبون الكبار فى الاقتصاد فى العالم لاعبون كبار خلف المستطيلات الخضراء التى لم تعد فى بساطة الحال فى الماضى.
كانت قصة اللاعب البرازيلى نيمار دى سيلفا مثالًا لكل ما يحيط بكرة القدم، وتحولها إلى تجارة ضخمة تديرها شركات عملاقة، تتداخل مع السياسة والتسويق، كان نيمار أغلى لاعب فى تاريخ كرة القدم عندما بيع فى صفقة بـ450 مليون جنيه إسترلينى، مع تعاقدات إعلانية مع شركات الأحذية والمشروبات والملابس والأجهزة الكهربية والساعات.. نادى باريس سان جيرمان يراهن على استعادة الملايين التى دفعها، ومثل صفقة نيمار هناك صفقات اللاعبين الأغلى، منهم ليونيل ميسى، وهارى كين، وكيليان مبابى، وكيفين دى بروين، وديلى آلى، وباولو ديبالا، وروميلو لوكاكو، وبول بوجبا، وانضم محمد صلاح إلى القائمة.
كرة القدم انتقلت من الاحتراف الهادئ إلى الاحتراف العنيف، وعولمة واسعة للعبة، حيث يعيش الجمهور على العاطفة، فإن صناع اللعبة وتجارها وصائدوها يحولونها إلى أرقام وحسابات توظف العواطف والانفعالات، وتترجمها إلى ملايين ومليارات.