الحمد لله الذى علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، وصلاة وسلامًا على النبى الأكرم سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد..
تكلمنا بالأمس عن أبى ذر الغفارى وكيف دخل الإسلام واليوم نستكمل الحديث عن هذا الصحابى الجليل، الذى أحبه النبى صلى الله عليه وسلم واعتنى بأمره، وأرشده إلى ما يصلحه، لأنه اكتشف مواهبه الحقيقية فوجهها فى طريقها الصحيح، يصف لنا أبو ذر المشهد قائلاً: «ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا مما صبّه جبريل وميكائيل- عليهما السلام- فى صدره إلا قد صبه فى صدرى»، إن أبا ذر يمتلك شخصية مؤثرة فيمن حوله تمكنه من الدعوة إلى الله على بصيرة، لذا ما إن وصل إلى قومه حتى اتجه إلى أخيه أنيس وما زال به حتى أسلم أخوه ثم اصطحبه معه إلى أمهما وما زالا بها حتى أسلمت، واستطاع أبو ذر بعد ذلك فى فترة وجيزة أن يجعل هذه الأسرة الصغيرة مركز إشعاع فى قبيلته تدعو إلى الحق، ولا تأخذها فى الله لومة لائم، ولا تفطر عن دعوة الحق حتى أسلم عدد كبير من قبيلة غفار على يديه، وأقيمت الصلاة فيهم، لقد كان شخصية فاعلة مؤثرة بحق تسطيع أن تؤثر فى مجتمعها ولا تكتفى بالنظر إلى مصالحها الشخصية، بالإضافة إلى كونه شخصية محبوبة من النبى صلى الله عليه وسلم، ولا تعنى المحبة التقديم فى كل الأمور حتى التى لا تناسبه، لذا لما طلب أبو ذر من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوليه قائلاً: ألا تستعملنى؟ رد عليه بقوله: «يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزى وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذى عليه فيها» وفى رواية ثانية: «يا أبا ذر، إنى أراك ضعيفًا، وإنى أحب لك ما أحب لنفسى، لا تَأمَّرنّ على اثنين، ولا تَولَّينَّ مال يتيم»، إذاً ليس معنى الحب لشخص أن تعطيه كل ما يريد، بل أن تعطيه ما يصلح له وما يصلحه، وأن تبين له كيف يستثمر طاقاته وإمكاناته وقدراته، أو بعبارة أخرى : أن تضع الرجل المناسب فى المكان المناسب، إن أبا ذر موهوب فى الدعوة إلى الله وفى الجهر بالحق، لكن فيه بعض الحدة التى يعرفها النبى، صلى الله عليه وسلم، ويعمل على تهذيبها، لذا لما حدث شجار بين أبى ذر وصحابى آخر فعَيَّر أبو ذر الرجل بأمه، سارع النبى- صلى الله عليه وسلم- إلى هذه الصفة التى ينبغى عليه أن يبتعد عنها فيقول له: «يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وَلْيُلْبِسْهُ مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم»، إنها صناعة الرجال فى مجتمع كان دائمًا ما يفخر بالحسب والنسب، ويحتقر الفقير وغير العربى ليتحول بعد ذلك هذا المجتمع نفسه إلى مجتمع راق، يفتخر ويعتز بتقوى الله، ولا يفرق بين الناس على أساس العرق أو اللون أو المستوى الاجتماعى أو الاقتصادى، مجتمع يحفظ الحقوق والواجبات، وينزل الناس منازلهم والنبى صلى الله عليه وسلم يعرفه حق المعرفة، ففى آخر غزواته جعل بعض المنافقين يتخلفون عن الخروج للجهاد معه فيقول الصحابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله، تخلف فلان. فيقول: «دعوه، إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه»، حتى قيل: يا رسول الله، تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره، فقال: «دعوه، إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه». فتلوَّم أبو ذَرّ رضى الله عنه على بعيره فأبطأ عليه، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فجعله على ظهره فخرج يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيًا، ونزل رسول الله فى بعض منازله ونظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله، هذا رجل يمشى على الطريق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كن أبا ذَرّ». فلما تأمله القوم، قالوا: يا رسول الله، هو- والله-أبو ذَرّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أبا ذَرّ، يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة