قطعة من رخام، لو رآها أى فرد فى أى وقت فى أى بلد لسار من جانبها غير مبال، وحده «مايكل أنجلو» حينما رآها صاح مندهشًا.. موسى.. موسى.
كانت قطعة الرخام هذه على وعد بأن تصبح من أشهر قطع الرخام فى التاريخ كله، فقد أصبحت بفضل أنامل أعظم نحاتى التاريخ الإنسانى من أشهر القطع الفنية فى التاريخ كله، وصارت مثالًا للجمال والكمال والقوة والوضوح، فقد جسد «مايكل أنجلو» بها شخصية نبى الله موسى، وصوره فى صورة حكيم قوى مهاب، مجتهدًا فى نحت أدق التفاصيل الإنسانية فى الرخام القاسى، فنرى بوضوح ونعومة عروق يديه وخصلات شعر ذقنه وثنايا ملابسه، حتى يكاد الواحد أن يسمع زفرات أنفاسه، وهو ما خلق العديد من الأساطير حول هذا التمثال، حتى إن البعض يدعى أن مايكل أنجلو حينما فرغ من إنجاز هذا التمثال نكزه بالإزميل قائلا له: «انطق».
لا أريد هنا أن أستفيض فى شرح عبقرية مايكل أنجلو، ولا تفنيد الأقاويل حول تمثاله الأشهر، أريد فقد أن تقف معى عند هذا الدرس الأول، درس الرؤية، درس الحلم، فقد رأى مايكل أنجلو تمثاله مكتملا قبل أن يمد يده إلى قطعة الرخام الصماء، وهكذا حال الحالمين، فالحلم ليس رفاهية، وليس أيضًا ضربًا من ضروب الخيال العقيم، الحلم مشروع، الحلم خطة، الحلم خيال يستمد أصوله من الواقع، ولا يكتسب طعمًا ورائحة إلا إذا تحول إلى واقع.
والحالمون هم الذين يبنون التاريخ ، هم الذين يسهمون فى تحويل مسار البشرية، هم الذين يرون قطعة أرض جرداء فيتخيلونها مدينة متكاملة، هم الذين يدركون إمكانيات الأشياء والبشر، ليس بناء على المتحقق، وإنما بناء على ما يمكن أن يتحقق، وأنت الحكم وحدك، أنت الوحيد الذى ترى نفسك فى المكان الذى يستحقك، أنت الوحيد الملم بتفاصيل حلمك، أنت الوحيد الذى يستطيع أن يرسم جنته ويشق الطريق إليها، فأنت معيار نفسك وأنت الحكم على نفسك، ولا بد أن تنبع طاقتك من داخلك، وأن تكون أول مشجعيك، وأول منتقديك، حتى لا تصبح لقمة سائغة لكل من يريد إحباطك فتنكسر، أو تصبح فريسة سهلة لكل من يريد نفاقك أو التزلف إليك فتنحدر وتتزيف وتعمى، أنت الوحيد القادر على رؤية تمثالك فى الحجر الأصم، وأنت الوحيد الذى يستطيع تقييم هذا التمثال مقارنة بما كان فى خيالك.