أعتذر مقدما..
لا أريد أن أجرح الآباء والأمهات الذين قد يرون أنفسهم فى السطور المقبلة، لكننى فقط أريد أن ألفت انتباههم إلى أن الفرق كبير بين أن تمنح الفرصة لابنك ليحقق حلمه، وبين أن تجبر ابنك على أن يحقق حلمك أنت الذى فشلت فى تحقيقه حين كنت فى مثل عمره أو أكبر قليلا..
ربما صادفتك المشاهد التالية، وما سأرويه لك هى قصص حقيقية من الحياة:
«1»
خذ مثلا أب يجر ابنه جرا لاختبارات كرة القدم فى أى الأندية الرياضية أو الاجتماعية، كان الأب يحلم فى الماضى أن يصبح لاعبا شهيرا فى كرة القدم لكن الزمن جار عليه، وجره إلى حياة أخرى لا شهرة فيها ولا مال، وكما جار عليه الزمن، جار هو على ابنه الصغير، وتصور أنه يستطيع أن يعوِّض ما فاته من الحلم عبر هذا الفتى الذى يتألق بين أصحابه، لكن مستواه الكروى لا يؤهله لأن يصبح لاعبا محترفا، لكن الأب يرفض هذه الحقيقة، ويناضل لخوض الاختبارات، وكلما أحرز محمد صلاح هدفا فى مباراة دولية أغمض الأب عينيه ليرى ابنه فى هذه المكانة، ثم أرهق ابنه بهذا الحلم: «شايف محمد صلاح، شايف رمضان صبحى، شايف الننى، لازم تروح التمرين كل يوم»، ويرضخ الابن أمام حلم الأب، كان الغلام يستمتع بكرة القدم مع أصدقائه فى النادى، لكنها اليوم تحولت إلى عبء على كاهله، وكلما غاب عن تمرين، أو أخفق فى تمريرة، أو طاشت قدمه فى ضربة حرة، صرخ الأب من على مدرجات النادى خلال التمرين «حرام عليك ركز شوية»، لكن الفتى لا يشعر بمتعته الشخصية، يسوقه حلم أبيه إلى أن تصبح الهواية التى أحبها جحيما يعيشه كل يوم، وحين يخفق فى الانضمام لفريق النادى، أو يجلس على دكة الاحتياطى، يتحول البيت والنادى إلى عذاب مقيم، وتتحول أجواء الأسرة إلى اكتئاب مستمر، وربما لو ترك هذا الأب الجامح لهذا الغلام الصغير أن يقرر مصيره لتخفف الولد من أعباء فشل والده فى الماضى، وربما تألق أكثر فى اللعبة، أو اختار لنفسه ألعابا أخرى تسمح له بمزيد من الشهرة والمال.
«2»
خذ مثلا آخرأم طيبة القلب، لم تسعفها نتائجها فى الثانوية العامة أن تحقق حلمها بأن تصبح طبيبة، فقررت منفردة أن تنقل الحلم إلى ابنتها الصغيرة، تحلم البنت بأن تكون مصممة ديكور، وتبدع فى الرسم، وتفهم فى الألوان والأخشاب والأثاث والفرش إلى الحد الذى يبهر أصدقاءها، ويبهر حتى أصدقاء والدتها الطيبة، لكن الأم لم تنس أبدا أن حلمها ضاع على درجتين أو ثلاث حالت دون أن تدخل فى الماضى كلية الطب، وأجبرها التنسيق على أن تدخل إلى كلية العلوم، الآن تعمل هى موظفة فى أحد المعامل الطبية، وترى الأطباء من حولها يمارسون المهنة التى عشقتها صغيرة، لكنها محرومة من لقب دكتورة إلى الأبد، فاعتبرت أن الحلم لا يزال قائما، وأنها تستطيع أن تنتزع من الدنيا ما حرمت منه من قبل حين تورث هذا الحلم لابنتها المجتهدة.
كانت البنت تشفق على هذه الأم المعذبة بحلمها الضائع، فنسيت ما كانت تحلم هى به، وناضلت لكى تحقق حلم أمها بالمذاكرة الشاقة، وبالاجتهاد فى مواد مدرسية لا مكان لها فى عقلها، لكن قلبها الطيب اختصر كل أحلامها الفنية فى عالم الديكور، إلى تحقيق حلم أمها بأن يكون فى العائلة «طبيبة» ناجحة وليس فنانة مغامرة.
وحين كرر التنسيق طغيانه مع الابنة الصغيرة، ضاعت أحلام الأم مرة أخرى، وضاعت أحلام البنت مرتين، الأولى فى أن تحقق حلمها هى بأن تصبح مصممة ديكور، والثانية بأن تحقق حلم والدتها القديم بأن تصبح «دكتورة».
هاتان القصتان حقيقيتان، ومعهما عشرات القصص الأخرى، أسمعها كل يوم تقريبا، وسمعتها أو عشتها أو صادفتها أنت أيضا:
الأم التى أجبرت ابنتها على تمارين السباحة وهى تحب كرة السلة.
والأب الذى أجبر ابنه على الهندسة بينما أراد الابن أن يكون محاميا كبيرا .
والوالد الذى حرم ابنه من دروس الموسيقى لأنه يريد له أن يحقق حلمه بأن يصبح سفيرا بعد تخرجه من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية..
كثير من الآباء يعتبرون أبناءهم امتدادا لأحلامهم هم، ويظنون أنهم يحسنون صنعا، ويتوهمون أنهم يقودون الأبناء للطريق الصواب فى حين أنهم يكسرون عزائم هؤلاء الشباب، ويسطون على أحلامهم البسيطة، ويوجهونها لتعويض فشلهم الشخصى فى الحياة..
يؤسفنى أن هذه الظاهرة متكررة، ويؤسفنى أن الآباء لا يدركون ما الذى يجرمون فيه بحق أبنائهم بعنف وبقسوة.
إن كنت واحدا من هؤلاء فاعلم أنك تقضى على مستقبل أولادك..
وإن لم تكن، فاحمد الله على نعمة العقل والرضا..
والله أعلى وأعلم..
أبناء مصر وشبابها من وراء القصد..