خالد عزب يكتب: الثقافة الشعبية وأوهام الصفوة.. من هو جحا؟

الأربعاء، 25 يوليو 2018 02:00 ص
خالد عزب يكتب: الثقافة الشعبية وأوهام الصفوة.. من هو جحا؟ غلاف الكتاب

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
من منا لا يعرف قدر الدكتور صلاح الراوى، الأستاذ بالمعهد العالى للفنون الشعبية فى القاهرة، والرائد فى هذا المجال، الذى أصدر أهم كتاب عن الشعر البدوى فى مصر فى العام 2000 ميلادية، وكتابا آخر مهما هو فلسفة الوعى الشعبى سنة 2001 ميلادية، وقيمة صلاح الراوى أنه يتجاوز الدارس والباحث فى الفن الشعبى إلى المبدع  شاعراً وروائياً، ومن هنا فتعامله مع التراث الشعبى سيكون مختلفاً من حيث التناول والغوص فى أعماقه، نقرأ هذا فى كتابه "الثقافة الشعبية.. وأوهام الصفوة" الذى صدر عن معهد الشارقة للتراث.
 
الثقافة الشعبية
 
الكتاب الكاشف إنما يلفت الانتباه إلى جذور الإبداع الجمعى والوعى الجمعى، كيف يعبر عن آلامه وأفراحه عبر أدبه. جعلنى صلاح الراوى بعد الانتهاء من قراءة كتابه أستدعى هذا الوعى الشعبى المبدع الذى مارسته أم كلثوم من غناء وكذا محمد فوزى ومحمد رشدى وغيرهم، بل حتى إبداعات عبد الرحمن الأبنودى وصلاح جاهين. لقد كان للوعى الإبداعى الشعبى دور فى تكوين هؤلاء كمبدعين ورثوا عن أسلافهم موروث متراكم الطبقات، حتى ظن البعض منهم منفصلاً عن هذا الوعى،  بل كان اداركهم اللاشعورى من هذا الفن العميق سبباً فى تحديد ما يقدمونه لجمهورهم، وهذا فى حقيقة الأمر أحد الأسباب غير الظاهرة لنجاحهم وقبولهم من فكرنا.
 
أراد صلاح الراوى فى كتابه هذا أن يسرقنا إلى فكره ورؤاه، لذا نراه يحدد أنواع الأدب ويفرق بينها من وجهة نظره فهو يرى أن النكته،  والنادرة يلتقيان على ما يسميه بالحكاية المرحه فى انتمائها إلى الفن الفكاهى الشعبى،  ومن هنا ينطلق ليفرق بين النكتة وبين النادرة فالتفريق بينهما أمر له أهميته، لأن الخلط بين الأنواع هو جوهر المصيبة التى تقع على رأس هذا الكائن المسكين المسمى بالفلكلور فقط (وليس الفلكلور الشعبى،  كما يصر البعض على تسميته). 
 
والنكتة بناءٌ فنى لغوى ذو ملامح خاصة، فهى تقوم على المفارقة والتى قد تكون مفارقة فنية  لغوية،  كاعتمادها على الجناس والتوريه وغيرهما، أو المفارقة الموقفية وغير ذلك من المفارقات، والمفارقة هى التى تولد الدهشة، ومن ثم  الإمتاع  الفنى (لاحظ أنها تسمى أحياناً القفشة، أى الإمساك بالمساحة العارية فى المفارقة).
 
 والعنصر الثانى هو الموقف النقدى، خاصة فى النكته السياسية،  وهذا العنصر مصدره الوظيفة التى خلقت هذا النوع الفنى، أما العنصر الثالث، فهو  قِصَر عبارة النكتة غالباً،  فالنكته الطويلة قليلة الإمتاع عادة.
 
وتلتقى النادرة مع النكتة فى العنصرين الأول والثانى، وتختلف عنها إلى حد ما فى العنصر الثالث، إذ تعتمد النادرة على السرد أو القص أو الحكى بصورة مضطردة،  ولا يعنى هذا أن النكتة لا تعتمد على السرد،  بل نقصد أن للنكته وسائلها المتعددة،  فقد تعتمد على السؤال والجواب أو على النشاط العملى ككذبة أول أبريل مثلاً ... إلخ،  بينما النادرة حكاية فى أساسها. ومن ثم، اصطلح على تسميتها بالحكاية المرحة، والنادرة تختلف عن النكته فى اهتمام الأولى بذكر أسماء أبطالها أكثر من النكتة.
 
كما اتفقت النادرة مع النكته فى أغلب ملامحها النوعية الرئيسية، فإنها تتفق معها فى الوظيفة بحكم انتمائمها معاً لجنس واحد هو الفكاهة الشعبية، وقد تبدو الفروق ضئيلة،  لكننا قصدنا إلى هذا التفريق، لنشير إلى أهمية تناول الأنواع الشعبية بشىء من التدقيق تجنباً للتعميم (وليس أحمد كالحاج أحمد).
 
ووظيفة النادرة، وفى رأى صلاح الراوى، هى النقد الاجتماعى أو السياسى. ومن هنا، كان القول بسلبية هذه الأداة الشعبية قولاً تنقصه الدقة العلمية، فهو تعميم و تسطيح،  ويعتقد أن مصدرهما الرغبة الغريبة فى تطوير الفولكلور، وكلمة "تطوير" هى أعجب،  بل أبشع و أجهل الشعارات التى ترفع فى مجال الفولكلور، ثم يتساءل: فمن الذى سيطور؟ إذا كانت الانتليجنسيا هى التى ستطور،  هو يطالبها بأن تفهم أولاً ما تتجه إلى تطويره. 
 
ونجد صلاح الراوى يأخذنا إلى نوادر جحا، فالنظرة الأحادية تدفع البعض إلى القول بسلبيتها، وأحياناً نجد من يقول بتطويرها. كيف؟ لا أدرى. وفى تصورى أن بعض أصحاب فكرة سلبية النوادر إنما يقفون أمام بعض النصوص ثم يصدرون أحكامهم،  بينما الموضوعية و الدقة العلمية تقتضى أن ندرس الظاهرة من وجوهها المختلفة من خلال عملية استقراء علمى،  فكيف نشأت الجحوية، وفى أية ظروف وكيف، وفى أية تجليات وصلتنا،  وأى جحا هو الذى نتحدث عنه، هل هو جحا العربى أم جحا الرومى ( التركى ) أم جحا المصرى؟
 
ويتسأل صلاح الراوى، كيف شكلت العقلية الشعبية المصرية (وليس الوجدان المصرى وحده) هذا الرمز، لأن جحا العربى كان شخصية تاريخية حقيقية (أبو الغصن دجين،  وقد ولد فى منتصف القرن الثانى الهجرى) وتحول إلى رمز، وكذلك كان جحا التركى (الخوجة نصر الدين،  المتوفى عام 638 ه)، وهو نابع كرمز من سلفه العربى،  ولقب خوجة لم يطلق على جحا التركى،  إلا لأنه كان فقيهاً ضليعاً،  وكما كان أبو الغصن _ فى بعض الروايات _ تابعياً من رواة الحديث النبوى،  كان الخوجة نصر الدين صوفياً صاحب كرامات. أما جحا المصرى،  فهو محض رمز صاغة المصريون من جحا العربى والتركى معاً.  وفى هذا التشكيل ذى المصدرين،  أبلغ رد على أصحاب فكرة السلبية، لماذا؟ لقد انتخبت العقلية الشعبية المصرية شخصية جحا العربى  رمزاً للتعبير عن رفضها للظلم الذى عاشته فى عصورها الإسلامية المختلفة، خاصة فى العصر المملوكى، حيث ظلم المماليك وانتشار البرطلة (الرشوة )،  وكلها مظاهر تضمنتها نوادر جحا، أو بمعنى أصح نقدتها بعنف،  وكان ذلك لوناً من الاحتجاج لا يفرغ نفس الجماعة من الكبت، بقدر ما يبلور إحساسها بالظلم من خلال المفارقة التى تكشف عنها، بل يشخصها " كاريكاتير " النادرة الجحوية، وهى، إلى جانب ما تقوم به، كفكاهة، من حماية للجماعة فى مواجهة الانهيار تقوم بدور تنويرى قد لا يكون مباشراً،  ولكنه يسهم مع غيره فى دفع الجماهير نحو الثورة والتغيير، والثورة الشعبية لم تتوقف بطول تاريخ مصر و كانت الفكاهة واحدة من أدواتها الأصيلة.
 
أما انتخاب العقلية الشعبية المصرية لجحا التركى،  فهو أكثر تعبيراً عما نذهب إليه من رأى،  فلقد كان جحا التركى شخصية ورمزاً تركياً واجه به الترك ظلم تيمورلنك الذى غزا بلادهم،  وقد لعب جحا دوراً واضحاً فى محاولة تقويم تيمورلنك من ناحية،  وتلقين الشعب التركى، أو بمعنى أصح لقّن الشعب التركى نفسه من خلال الرمز جحا، دروساً فى الوعى الأخلاقى والاجتماعى والسياسى، فعندما سأل تيمور لنك بعض الناس،  هل هو عادل أم ظالم ثم قتل كل من قالوا له إنك عادل،  وكذلك كل من قالوا له إنك ظالم،  نجد جحا يقول له: إنك لست ظالماً ولا عادلاً بل نحن الظالمون (لأنفسنا طبعاً)،  وأنت سيف العدل الإلهى الذى نستحقه. 
 
إن أصحاب فكرة السلبية يريدون من جحا أن يقتل تيمور لنك أو يخطب فى الناس بالثورة،  وهل أبلغ من الخطبة التى قالها جحا أم الحاكم نفسه؟ فجحا لم يواجهه مواجهة حمقاء انتحارية،  ولم يكن مدلساً منافقاً انتهازياً،  بل علّم شعبه أن تيمورلنك دخل من بوابة خلل فى الشعب التركى نفسه،  وهى إجابة لم يفهمها تيمورلنك، وجحا هو الأولى بالقتل من الذين قالوا نعم استسلاماً،  والذين قالوا لا حماقة و اندفاعاً. 
 
وعندما احتلت تركيا مصر،  وظلم الترك المصريين ( العرب )،  اختار المصريون رمزاً تركياً له دلالته و مزجوا بينه و رمز عربى،  وشكلوا منهما الرمز المصرى، وبهذا أضافوا إلى الرمز العربى الأصيل عندهم رمزاً تركياً استعان به الترك أنفسهم لمواجهة الظلم التيمورلنكى الذى يمارسونه تجاه الشعب المصرى العربى. 
 
وإذا كان العرب أو الكتاب والمؤرخون الرسميون منهم، قد أدرجوا جحا ضمن الحمقى و المغفلين والمجانين، برغم الفرق الواضح بين الحماقة و الاستحماق، أى ادعاء الحماقة، وهو موقف تمثيلى واعٍ و مقصود،  وينم عن ذكاء شديد يفوق ذكاء ذلك الذى يواجه الموقف السلبى باندفاع ساذج غير محسوب،  إذا كان الأمر كذلك،  فإن المصريين ينظرون إلى جحا بوصفه ولياً طاهر القصد و السيرة،  ويحكون عنه أمراً قد يبدو غريباً على البعض،  ولكنه محمل بدلالات كثيرة،  يقولون : إن لجحا بيتاً لا يزال موجوداً (لا يحددون مكانه، فإذا سألتهم قالوا لك: هنالك مكان ما،  ويعدون سؤالك ساذجاً)،  وهذا البيت فى ذاته نادرة من نوادر جحا، فهو عبارة عن باب بغير جدران وكيف تحد الجدران تجربة جحا؟ إن الأرض كلها بيته،  ولا يمكن أن يحبس نفسه و تجربته (كشعب) بين أربعة جدران، ويقولون أن من يمر بهذا البيت دون أن يضحك يُصاب بالعمى حتى يتجاوز هذا البيت.
 
فهل تأمل أحد ما وراء هذه الصورة الشعبية المصرية،  بيت بلا جدران،  ثم حتمية أن يعمى من يمر به دون أن يضحك، هل هناك من يمر بمثل هذا البيت، دون أن يضحك؟! لا أعتقد،  وهذه دلالة. وهل العمى هنا عمى حقيقى (عضوى) أم أنه عمى عدم إدراك حقيقة جحا وبيته (بمعنى أصح نوادره) ؟ وهذه دلالة أخرى أكاد أقطع أن الشعب بمثل هذه الصورة يحمى (مقدماً) إنتاجه الفنى عميق الدلالات من تصورات الانتليجنسيا المتعالية وتقعراتها وسطحيتها؛ فهو يتهمهم بالعمى سلفاً.
 
أكد الدكتور صلاح الراوى فى كتابه، أهمية أن يكون للجماعة الشعبية إبداع ثقافى ومعرفى وفنى خاص بها، يقنن وجودها ويضبط إيقاع حركتها ويفلسف حياتها، ويحقق لها انسجامها مع واقعها كوناً وطبيعة ومجتمعاً،  ويحفظ لها قوامها الحضارى،  فهى تنسج منه حولها قشرة صلبة تحميها من كل محاولة لتحطيمها واختراقها والوصول إلى عصبها وشله،  ركز عبر صفحات كتابه على الجماعة الشعبية المصرية بتجربتها التاريخية الطويلة كمثال نموذجى على هذا الذى ذهب إليه عبر صفحات كتابه. 









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة