يعود الفضل فى معرفتى بنجاة الصغيرة إلى السيّدة لطفيّة، إحدى جاراتنا القديمات فى الحىّ. كانت فى ذلك الوقت سيّدة مسنّة، رحمها الله، لكنّنى كنت أسمع الكثير عن حكاياتها التى غالبًا ما كانت معرضًا للتندّر. سمعت أنّها فى أيّام صباها وقعت فى خلاف مع زوجها، أدّى بها إلى الخروج من المنزل مغاضبة إلى دار أهلها الملاصقة لدارها، وأنّها فى أيّام الغضب تلك صعدت إلى السطح لتنشر الغسيل، وفيه حوائجها وأثوابها وكانت تغنّى مع كلّ قطعة على حبل الغسيل:
حتّى فساتينى التى أهملتها/ فرحت به، رقصت على قدميه
سامحته، وسألت عن أخباره/ وبكيت ساعات على كتفيه
سمعها زوجها، فاشتاق، ورقّ قلبه، وذهب فى المساء لمصالحتها واستعادتها، لكنّها رفضت الخروج إليه، وقالت لأمّها وهى تعرّض به، وتسمعه صوتها:
أيظنّ أنّى لعبة بيديه/ أنا لا أفكّر فى الرجوع إليه!
يضحك الجميع حين تُروى هذه الحكاية عن العمّة لطفيّة، الأميّة، ذات الجمال المتواضع، والأصل المحافظ، والحضور الذى لا يشى أبدًا بقدرة على مناورة الرجال فى مجتمع أقرب إلى الريفيّة. تساءلت حينها عن سحر الأغنية التى حفظتها تلك السيّدة ومثّلتها فى أكثر المقامات حساسيّة وقداسة، إنّه مقام تهديد بيت الأسرة، ومواجهة زوج صعب المراس! لا يمكن أن أفوّت هنا ذكر سيّدة أخرى، تحمل بالصدفة الاسم ذاته، إنّها الجدّة لطفيّة التى تستعين بأغانى أمّ كلثوم فى كلّ موقف، إذ تضع رجلًا على رجل، وهى ترفل بلباسها العربىّ التقليدىّ، وتكون فى منتهى الجديّة حين تتأمّل الأفق أمامها مثل فيلسوفة الإغريق «ديوتيما»، فتقول: «إيه كما قالت الستّ: «الحبّ كده...»، أو تقول، وهى تحشو سيكارتها بالتبغ بهدوء المستسلمين: «إيه.. قل للزمان ارجع يا زمان!
عند هاتيك العجائز اللواتى تربيت فى حجورهن، واللواتى أناديهنّ بعمّة وجدّة، وقد لا تكون بينى وبينهنّ صلة دم، عرفت تلك الأغنيات المكوّنة للذائقة، والتى بقيت تمشى معى إلى اليوم، قبل أن أعرف أسرار الكلمة واللحن والأداء، وقبل أن أعرف قصص الحبّ وراء كتابتها وغنائها، وكان ذلك على عتبات المنازل فى الأزقّة، وأمام الأبواب المشرعة فى مدينة الرقّة، وفى أمسياتها الرقيقة على شاطئ الفرات، حيث تأسرنى البلاغة النسويّة التى تتسلّل أبدًا إلى رواياتى، كما تأسرنى قدرة النساء الأميّات على قنص المعنى العميق فى اللحظة المناسبة، وبقول قاطع.
كان من السهل علىّ فى مرحلة تعليمى الابتدائىّ أن أذهب إلى دواوين نزار المتراصّة فى مكتبة البيت، والتى كنت أقرأها فى تلك السنّ المبكّرة، وأحفظ منها قصائد كثيرة، لكنّ «كاسيتات» نجاة كانت غائبة عن خزانتنا الموسيقيّة فى مقابل كاسيتات عديدة لفايزة أحمد وسعاد محمّد، وأقلّ منهما كان حضور أمّ كلثوم، لذا توجّهت صباحًا بعد قصّة العمّة لطفيّة إلى محلّ «فيليبس» العائد للسيّد فارس الفؤاد، وكيل الماركة الشهيرة للإلكترونيّات ولأشرطة الكاسيت. يقع المحلّ الواسع الأنيق على ناصية الشارع بين حيّنا وشارع المنصور، السوق التجارىّ الأشهر فى الرقّة القديمة، والتى يمكن أن نسمّيها بلغة الجيل الجديد: «الداون تاون». هناك يجتمع رجال الحارة المثقّفون، وبينهم أبى، والمحبّون للفنّ، يقضون دقائق ممتعة فى حوارات سريعة، أو فى تصفّح جريدة يوميّة وقت استراحة عمل بين نوبتين، أو ريثما يفتح ديوان العائلة أبوابه بعد العصر. وجدت يومها الحاضرين وقد التفّوا حول صينيّة الفطور الذى يُطلب من محلاّت السوق المجاورة، وكان دائمًا كبابًا وشقفًا وشيش طاووق. تناولت فطورى معهم، وقبل أن يحمّلنى العمّ فارس شريطًا لـ«داليدا» أو لفرقة «الفور إم» كما يفعل عادة، عاجلته وطلبت منه «أيظنّ» فانفجروا جميعًا فى الضحك، وأنا عدت بغنيمتى: فطور دسم، وأغنية أسرتنى طويلًا.
كانت أمّى نصف الحلبيّة تفاجئنى دائمًا بما تحتفظ به من معرفة موسيقيّة بليغة، وهى التى تعلّمت عزف العود فى صغرها لفترة فى معهد حلب الموسيقىّ على يد العلاّمة سعد الله آغا القلعة، وربّما ظهر شىء من ذلك أيضًا فى رواياتى! لقد عاشت عائلة أمّى فى حلب، وهذا ما أعزوه إلى كرم الجغرافيا، ويمكننى أن أقول إنّ عائلتها ولدت تحت نجمة الفنّ قياسًا على قولنا: فلان ولد تحت نجمة الحظ، ففى حلب تناديك الألحان من شبابيك البيوت، وشرفات الخانات، وحوانيت الحرفيين، وقباب المساجد والكنائس، وقد نالنى جزء كبير من ذلك، فكان مدخل آخر إلى نجاة من «عيون القلب»، تترنّم بها أمّى، رحمها الله، معها حين تظهر على شاشة التليفزيون فى آخر برامج المساء، بفستان الموسلين الأصفر، وحبّة الفيروز الساحرة تتدلّى حول عنقها اللطيف بأناقة محتشمة أميريّة، تزيدها عبقرية الفنّانين الأبنودى والموجى.
أدهشتنى ماما حين قالت إنّ أصلها سورىّ، وإنها أخت سعاد حسنى، وكان صعبًا علىّ أن أتلقّى هاتين المفاجأتين معًا، وشعرت بغبطة أستذكر طعمها إلى اليوم حين يشير أحد ما إلى تلك المسألة، ممّا يجعلنى أقول لمن معى كلّما جاء ذكر نجاة: هل تعرفون أنّها سوريّة الأصل!
تعلّمت، مع غياب أمّى فى نوبة الطرب، كيف يمكن للضآلة أن تصير صورة جماليّة، تجمع بين شكل الجسد، ومستوى الصوت، ومعنى الضراعة فى النصّ، فى مقابل سطوة الشعر الأسود، والثقّة بالأداء واللغة، إذ لا تخطئ نجاة فى اللغة العربيّة إطلاقًا، وذلك عندى شرط من شروط الإبداع، والجذب، بل كيف تخطئ وقد درست فى كنف الفنّان محمّد عبدالوهاب، ربيب أمير الشعراء أحمد شوقى! صارت «عيون القلب» بسبب أمّى واحدة من مفضّليّاتى، وأبقى أعيش معنى: «إنت تقول وتمشى...» بكثير من الحنين.
فى الجامعة تُصقل ذائقتنا الفنيّة بالاطّلاع على أذواق الأساتذة والأقران، والدخول فى منافسات لغويّة وعاطفيّة على فكرة النضج، تصاحبها رسائل الغرام، والتوريات، وكشف بعض من أسرار المحبّين من الرفّاق الذين لهم إخوة أكبر أو علاقات أسبق تفرض مدوّنة غنائيّة واسعة، وهكذا كان السبيل إلى معرفتى «أسألك الرحيلَ». كان فى حىّ العزيزيّة فى حلب محل تسجيلات شهير اسمه «الملك»، على طريق المنزل فى «محطّة بغداد»، وقد اشتريت منه الكاسيت، إذ امتلكت آنذاك مسجّلة «سونى» صغيرة سوداء ظلّت بجانب سريرى. إنّ أجهزة التسجيل بالباب الذى يفتح ويغلق بكبسة الزرّ، وقد ينخلع مع الاستعمال، وبشريط الكاسيت ذى الوجهين، اختراعات لا يعرفها جيل السى دى والريموت كونترول.
فتحت الغلاف البلاستيكىّ لشريط «أسألك الرحيل» الأغنية التى تناسب لحظتى الإنسانيّة، فتشجّع على المضىّ بقرار الفراق، فكانت المفارقة الساخرة فى أنّ الوجه الثانى للشريط كان أغنية «ارجع إلىّ»! لم أحتر فى أىّ الوجهين كان علىّ أن ألتزم، فقد وجدتها إشارة إلهيّة، ومضيت فى التعرّف إلى «ارجع إلىّ»: «ارجع كما أنت، صحواً كنتَ أم مطراً».. ثمّ تعرّفت بجهدى الشخصىّ إلى «القريب منّك بعيد»و، حيث لم أكن أعرف ذلك حقّاً! وتعرّفت إلى «أنا بعشق البحر» و«شكل تانى»، وغيرها من الأغنيات التى تشبه الشرود مع غزالة فى البريّة، أو إغفاءة تحت شجرة ظليلة فى صيف قائظ كهذا الصيف الذى ولدت فيه نجاة، القيمة التى بقيت لنا من الزمن الجميل وأهله. أرجو لها فى عيد ميلادها الثمانين أيّامًا تزيّنها الصحّة والأمان، وأمتنّ لها كثيرًا للجمال الذى درّبتنا عليه، وللأيّام التى جمعتنا فيها بأحبّتنا عبر صوتها الفريد، وأغنياتها البليغة، فصنعت لنا تاريخًا صغيرًا وهى تدوّن سجلّها الفنىّ العظيم!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة