صحيح طبعًا أن الولايات المتحدة الأمريكية ارتكبت أخطاء سياسية وعسكرية كبيرة فى المنطقة العربية عبر عصور مختلفة وإدارات متعاقبة، لكن استمرار تأسيس الصورة الذهنية لأمريكا على أساس «الشيطنة الدائمة»، وتقديم واشنطن على أنها دولة تتآمر على العرب، أو تخطط لتقسيم العالم العربى، أو تدبر فى الخفاء ضد الشعوب العربية ينطوى على سذاجة سياسية وإعلامية كبيرة، كما أن استمرار هذه الصورة الذهنية يفتح الباب لمخاطر فى العلاقات الدولية مع إحدى أهم القوى فى العالم، كما يفتح الباب لترسيخ حالة التناقض العربى، إذ إن التعاون الكبير بين أمريكا والعرب فى مجالات متعددة، يتزامن معه خطاب إعلامى هنا فى المشرق العربى يعتبر أمريكا هى الخصم، وهى المتآمر، وهى نصير الإخوان، وهى صاحبة مخططات التقسيم، إلى آخر هذه الصور الذهنية التى لم تتغير منذ سنوات الحقبة الاشتراكية.
أكرر هنا أن بعض الإدارات الأمريكية ارتكبت أخطاء فادحة، لكن الأكيد أيضًا أن هذه الأخطاء لم تمنع كل صور التعاون بين العرب وواشنطن فى مختلف المجالات، فالولايات المتحدة منفردة صاحبة أكبر قواعد عسكرية فى المنطقة العربية، وتتمتع بعلاقات أمنية وعسكرية شديدة التميز مع بلدان الخليج العربى، والولايات المتحدة هى أحد أكبر الشركاء الاقتصاديين لبلدان المشرق العربى، وتأتى قبل روسيا والصين فى العلاقات الاقتصادية البينية مع عدد كبير من البلدان العربية، والولايات المتحدة هى شريك استراتيجى مهم للقاهرة، ورغم التوترات التى تحدثها بعض الإدارات فى البيت الأبيض، ورغم المناورات التى تجرى بين الحين والآخر حول المعونة الأمريكية التى تتلقاها مصر منذ اتفاقية السلام مع إسرائيل، فإن هذه المناوشات والمناورات والمشاغبات السياسية بين البلدين لم تصل العلاقات أبدًا إلى مستوى الخصومة أو القطيعة، بل على العكس، تتواصل عمليات التنسيق والتعاون والدعم والتفاهم المشترك فى أدق اللحظات بين الجانبين.
القصد هنا أننا، وكما نطالب الغرب بأن يعيد النظر فى الصورة الذهنية عن الإسلام والمسلمين، فإننا فى الوقت نفسه يجب أن نعيد النظر فى صورة هذا الغرب فى بلادنا، وبصفة خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، إذ إن كل من يقرأ الصحف العربية، أو يتابع أيًا من البرامج التليفزيونية فى الفضائيات من المحيط إلى الخليج يدرك بسهولة أن الوعى العام يتعامل مع الولايات المتحدة وكأنها «خصم» أو «عدو محتمل»، وينسب إلى السياسة الأمريكية كل مصيبة سياسية أو أمنية فى المنطقة، ويلصق بالسياسة الأمريكية اتهامات لا تتناسب فى الحقيقة مع حجم العلاقات الطبيعية القوية الراسخة على أرض الواقع.
ما زال هناك من يرى أن أمريكا ترعى الإرهاب الإخوانى فى المنطقة، رغم أن الإدارة التى رعت الإخوان رحلت عن صدارة الحكم، وحلت محلها إدارة جديدة غيّرت من سياستها تجاه الجماعات الإرهابية، وانحازت «بدرجة أكبر» إلى الشعوب والأنظمة التى واجهت الإخوان، وحاربت إرهاب هذه الجماعة أمنيًّا وسياسيًّا وإعلاميًّا، فكيف نردد فى مواجهة إدارة جديدة بسياسات جديدة، ما كنا نقوله حرفيًّا عن إدارة قديمة بسياستها القديمة.
وما زال هناك من يرى أن الولايات المتحدة ترغب فى تقسيم العالم العربى، رغم أن الموقف من استفتاء الأكراد على الاستقلال جاء بالعكس تمامًا، كما أن موقف الولايات المتحدة من الحوثيين فى اليمن يؤكد أن واشنطن، رغم المشاغبات، تساند وحدة اليمن وشرعية حكم القيادة اليمنية، المتمثلة فى الرئيس هادى.
الموقف الأمريكى من حكم الملالى فى إيران، وتحولات إدارة ترامب ضد الاتفاق النووى الإيرانى، يصب فى النهاية لصالح الأمن القومى العربى بلا شك.
العلاقات إذن ليست كلها شر، والسياسات الأمريكية ليست كلها معادية، قد ترى أنت أن الموقف الأمريكى من إسرائيل ومن القدس لا يرضيك أو يرضى أى عربى من المحيط إلى الخليج، لكن هذا النوع من الخلاف يجب أن يبقى فى دائرة حوارات ومفاوضات المصالح بيننا وبين قوى العالم، لا يعنى غضبنا من موقف محدد أن صاحب هذا الموقف شيطان يجب الكفر به، كما لا يعنى أن تفاهمنا المشترك على موقف معين أن من اتفق معنا هو ملاك من السماء يجب أن ننزله مكانته المقدرة فى قلوبنا، فالسياسة ليس فيها ملائكة أو شياطين، فيها فقط مصالح مشتركة، وتفاهمات بين الدول، وقيم إنسانية يتفاهم حولها الجميع، وأمريكا شأنها كشأن أى دولة فى العالم تسعى لمصالحها، وتصيب أحيانًا، وتخطئ أحيانًا أخرى، وأرى أن شيطنتها إعلاميًّا ليست هى الحل الصحيح، كما أن شيطنة العرب أو المسلمين فى بعض وسائل الإعلام الأمريكى ليست هى الطريقة الصحيحة للتعامل مع المنطقة.
أدعو هنا إلى تصحيح الوعى المشترك من الطرفين، نصحح نحن الصورة والخطاب من جانبنا، ويصحح شركاؤنا فى الإنسانية وأصدقاؤنا فى الولايات المتحدة خطابهم كذلك فى المقابل، وسياساتهم أيضًا حين يطرأ خلاف أو تتعارض وجهات النظر.
علينا أن نقدم خطابًا إعلاميًّا يعبر عن نظرة إعلامية ناضجة للمجتمع الدولى، ونتجاوز سذاجة الصور الذهنية المسبقة فى العلاقات مع دول العالم، وفى العلاقات مع الولايات المتحدة، الدولة الأكبر والأهم اقتصاديًّا وعسكريًّا على خريطة العالم، نتفق فى قضايا، ونختلف فى قضايا أخرى دون أن يشيطن كل منا الآخر، ودون أن نراكم صورًا سلبية عن دول العالم من حولنا، يشعر فيها المواطن العربى بالتربص والتآمر من كل جهة، فى حين أن الدول التى نتهمها بالتآمر والتربص هى أكثر الدول المتعاونة مع الإدارات العربية.
هذه دعوة للإيمان بالمنطق فقط.
ودعوة للطلاق مع السذاجة، والتعبئة الكاذبة، وحشد الناس على صور سابقة التجهيز لا تتطابق مع الحقيقة، ولا تعبر عنها العلاقات بين الدول.