شعور متضارب يتملكنى وأنا أتابع أخبار المسبار «يوجين باركر»، الذى أطلقته وكالة ناسا الأمريكية، ليكون أول مركبة فضائية تلامس الشمس وتكشف أسرارها وألغازها.. شعور بالفخر الإنسانى والفرح العارم لما يمكن أن يصل إليه البشر من قوة وتقدم ومعرفة وشجاعة، وشعور آخر بالحزن الذى يعتصر القلب، والأسى الذى يحط على النفس كسحابة سوداء كثيفة ناتجة عن حرق القمامة بمنطقة عشوائية فى بلدنا.
أتابع بشغف ما يمكن أن يصل إليه الإنسان من قدرة حتى على اقتحام جهنم المخيفة التى ظلت طوال تاريخنا المعروف مصدر رعب وإلهام، وفى نفس الوقت أشعر بالقهر، نعم بالقهر من وطأة أحوالنا ومن تخلفنا ومن تفاهتنا التى تدل عليها بوضوح طبيعة القضايا التى تشغلنا، والتوجهات العامة التى تحكمنا، والتطلعات الاستهلاكية التى تملأ حياتنا.
نعم، أصبحت على يقين بأن العالم فى واد ونحن فى واد ثان مختلف ومتخلف، تخيلوا حديقة كبيرة مزدهرة بالأشجار المثمرة فى مدينة حديثة ومخططة، وأهلها منظمون يلتزمون بقواعد المرور والنظافة والعمل الجاد، وفى تلك الحديقة حجر كبير تحته عالم آخر من الحشرات التى تعيش فى الرطوبة والظلام، ولا تعرف إلا أبعاد الحجر الجاثم فوق عالمها، نحن أشبه ما نكون بتلك المجموعة من الحشرات تحت حجر الحديقة فى المدينة الحديثة المنظمة، بينما العالم وأهله فى مدارات أخرى ينعمون بحياتهم وينتجون ويبدعون وينشغلون بما هو أهم كثيرًا من الرطوبة والظلام اللذين نغرق فيهما.
هل تعتقدون أننا يمكن أن ننهض وحجر التخلف جاثم على عالمنا؟ هل تعتقدون أننا يمكن أن نرتقى بأنفسنا من حشرات تعيش فى الظلام إلى بشر مكلفين واعين بلحظتهم التى يعيشون فيها، وبمسؤوليتهم تجاه أنفسهم وتجاه بلدهم وتجاه الإنسانية كلها؟ بمعنى آخر، هل يمكن لنا أن نسهم فى المدنية الحديثة بشىء؟ هل يمكن أن نشارك فى الحضارة الإنسانية التى تقوم على إنتاج العلم والمعرفة بسهم؟ متى ووفق أى ظروف ونحن مشغولون مازلنا بأبعاد الحجر الذى نعيش تحته باعتباره هو كل الكون، ونكفّر كل من يدعو إلى اكتشاف الدنيا من حولنا وإلى تقديم معرفة أخرى غير تلك التى يحتكرها رجال الحجر أو رجال الدين؟
نعود إلى العالم الحقيقى، وكيف أطلقت وكالة ناسا المسبار «باركر» وصممته ليخترق الغلاف الجوى للشمس، ومواجهة درجة حرارة تزيد على مليون درجة مئوية، لفهم استمرار تلك الحرارة الهائلة، ودراسة ما يعرف بالعواصف الشمسية من خلال التقاط صور لسطح الشمس على مدى سبع سنوات، تكفى لدراسة سطح جهنم، وأبعادها، ومستويات الطاقة فيها، وهى مهمة تاريخية عظيمة، بل يمكن القول دون مبالغة إنها أعظم مهمة تاريخية تصدى لها الإنسان المتحضر.
وكالة ناسا صممت المسبار «باركر» بعد أبحاث طويلة لاكتشاف مادة ملائمة لتحمل الحرارة الهائلة الصادرة عن الشمس، واستطاع علماؤها التوصل لمادة من الكربون الحرارى لعمل دروع حول المسبار بسمك 12 سنتيمترًا، تتحمل درجة حرارة تتجاوز 1400 درجة مئوية من مسافة 6 ملايين كيلومتر تقريبًا من الشمس، بينما المسافة بيننا على الأرض وبين الشمس 150 مليون كيلومتر، وبذلك يكون المسبار «باركر» داخل الهالة الشمسية، وقادرًا على رصد كل ما يتعلق بسطح جهنم الحمراء ودراسة طبيعة الرياح الشمسية.
ونحن مشغولون مازلنا بحجاب حلا شيحة، وافتكاسات المشايخ المتطرفين، وأوهام المتخلفين وجدلهم الفارغ على مواقع التواصل، تحت الحجر إياه فى الحديقة!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة