منذ زمن بعيد يقارب الأربعين عامًا لم أشهد المنيا كما شاهدتها الأسبوع الماضى، كنت فى طفولتى وشبابى أرى جنازة أى ميت، تعنى توقف الناس فى الشارع، والمشاركة فى حمل الصندوق أو الحسينية، والآخرون ينزلون أبواب متاجرهم، والمارة يرفعون السبابة إلى أعلى فى إشارة للتوحيد بالله، اختفت تدريجيا تلك المظاهر، ولكنى فوجئت بها تعود فى جنازة المطران أرسانيوس مطران إيبارشية المنيا وأبو قرقاص احتشد بكنيسة الأمير تادرس وحولها الآلاف فى حضور كل كهنة المحافظة تقريبا وأغلب الأساقفة وقداسة البابا تواضروس..
ومن الأمير تادرس إلى المطرانية ظهرت المنيا فى مشهد حزين غيرمسبوق.. نساء تبكى ورجال تسبق دموعهم كلماتهم.. المحافظ ورجال الأمن والقيادات الشعبية والسياسية.. يتقدمهم قداسة البابا تواضروس ونيافة الأنبا مكاريوس وشباب وشابات الكشافة.. هكذا من المنيا، من حشا الوطن.. صوت الله يأتينا عبر روح قديس عاش فى صمت ورحل فى صمت، وأثناء دفنه فى المطرانية، توقفت المنيا، وفى العزاء تدفقت موجات أهل المنيا كالنيل، وشعرت أن النيل يفيض حزنا، لقد امتزج كل ذلك بالطبيعة المصرية الروحية الإنسانية..
هكذا لمست ورأيت، جزءا من مكونات الشخصية المصرية والجماعة الوطنية التى وإن غابت عنا تعود من جديد، فنحن حين نتعرض لمظالم وتحديات نحتاج إلى ضرب من الإعجاز، نصوم ونصلى ونعتكف، ونبتهل لله، ونعتبر أن هذا هو المشهد الحقيقى للانتصار، فى رحاب الله شهدائنا نبتهل ونتقوى بالله، وفى القلب تقوى المصريين تفيض مع النيل مثلما فاض من دموع ايزيس على اوزوريس، وتكتمل الأسطورة من بعضهم على جروحهم بحثا عن الفرح.. كان العزاء عزاء لروح مصر والمنيا، ورمزا للمحبة حيث استقبل الأنبا مكاريوس اسقف المنيا وأبو قرقاص على مدى ثلاثة أيام الآف من المواطنين والأسر والأطفال مسلمين ومسيحيين، أغلبهم من عامة الشعب، مظاهرة حب حقيقية كانت مفتقدة.. روح شعب يرد بها على مهاترات تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعى.. هكذا جاء الرد من المنيا.. فى إشارة من عمق الوطن بالمنيا، لتؤكد أن الكنيسة، كنيسة شعب، عاشت منذ الفى عام ومر عليها اكثر من محتل وحوالى مائة حاكم، وقدمت مئات الآلاف من الشهداء ولازالت شامخة تصلى من أجل الوطن والنيل والحاكم والضمير.