عاد نجيب محفوظ الروائى والأديب، ليثير المزيد من الجدل حول السياسة والدين والشجاعة والجبن، والفضل فى ذلك لكتاب مهم أصدره الكاتب محمد شعير «أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المحرمة»، وهو الجزء الأول من مشروع ثلاثى لشعير، يرصد أدب نجيب محفوظ فى ظل تاريخ أدبى واجتماعى وسياسى لمرحلة عاشها محفوظ ضمن زمن امتد طويلا، وعايش صراعات وتحولات، وقدم مشروعا روائيا وأدبيا هو الأكمل على المستوى العربى، وأحد أهم المشروعات الأدبية فى الأدب العالمى.
فضلا عن كونه قدم تاريخا اجتماعيا لمصر خلال القرن العشرين والحربين الكبيرتين وثورتى 19 ويوليو. محمد شعير فى كتابه «سيرة الرواية المحرمة» يقدم تحقيقا واستقصاء وتوثيقا للظروف التى أحاطت برواية «أولاد حارتنا»، وتمثل الجزء الأول لرواية السيرة الأدبية لنجيب محفوظ نفسه، التى تشكل «سيرة كاملة لمصر وللحداثة المصرية».
الرواية التى نشرت مسلسلة فى الأهرام آثارت صراعا وتعرضت لهجوم من أطراف المؤسسة الدينية، وسعى بعضهم لوقف نشرها مسلسلة، وتعرض نجيب محفوظ للتحقيق بسببها، واتهم بأنه يعيد كتابة قصص الأنبياء، وهو ما نفاه محفوظ، وظل الجدل قائما، ويرى محمد شعير أن «أولاد حارتنا» هى الرواية المركزية فى عالم نجيب محفوظ، و«حياته بعدها لم تعد مثل حياته قبلها».
وبالفعل كانت الرواية محورية فى تاريخ نجيب محفوظ والأدب العربى، ولهذا تأتى أهمية الجهد التوثيقى الذى بذله محمد شعير فى سعيه لبناء سيرة أدبية لنجيب محفوظ، وهى سيرة للأدب والصراع الثقافى وثنائيات الصراع المنقسم منذ بدايات القرن العشرين وحتى اليوم.
ومنذ ظهرت أولاد حارتنا لم يتوقف الصراع، سعى بعض كبار المشايخ فى الأزهر وخارجه لوقف نشر المسلسل فى الأهرام، ومنهم من كان ينتمى لمعسكر الاعتدال، وانتهى الأمر بمنع طبع ونشر الرواية فى مصر والاكتفاء بمسلسل نشر بالأهرام، لتتولى دار الآداب طباعتها لتصدر فى طبعات متوالية، وتظل تحيط بملابساتها عالم نجيب محفوظ. عندما فاز محفوظ بجائزة نوبل فى الأدب عام 1988، كانت أولاد حارتنا ضمن أسباب الفوز، وفى عام 1995 طعن متطرف الشيخ الأديب فى رقبته، سأل القاضى الرجل الذى طعن نجيب محفوظ: لماذا طعنته؟
فقال القاتل: لأنه كافر وخارج عن الملة
القاضى: كيف عرفت؟
المتهم: من روايته «أولاد حارتنا»
فسأل القاضى بدوره: هل قرأت أولاد حارتنا؟
فقال الشاب: لا
كان اعتراف الشاب كاشفا عن نموذج فى التكفير الشفهى بناء على عنعنات، بالرغم من وجود تأويلات اعتبرت أولاد حارتنا تأكيدا لأساطير النصوص.
المهم أن نجيب محفوظ سامح من حاولوا قتله كعادته، وهو ما اعتبره بعض المراقبين نوعا من التراجع أو «الجبن» من نجيب محفوظ أمام قوى التطرف، مثلما كانت مواقفه السياسية من السلطة، وهو ما آثارته الدكتورة سيزا قاسم أثناء مناقشة كتاب محمد شعير عن السيرة المحرمة.
المهم أن نجيب محفوظ تعرض لهجوم من جهات مختلفة، من اليسار واليمين، لكنه ظل يسير فى طريقه كبناء أدبى، يقدم تاريخا اجتماعيا وسياسيا لمصر، ثم إنه كان قادرا على تقديم آرائه بشكل يخلو من الخطابة أو الادعاء، وهو أمر مختلف عليه مثل كل أديب كبير.
يسعى محمد شعير لكتابة سيرة أدبية ويقوم برحلة بحث فى مئات الوثائق والدوريات، ليرصد أزمة الرواية التى تجاوزت كونها أزمة لنجيب محفوظ، إلى أن تصبح معركة حول التفكير والنصوص والمجتمع وتحولات فى الأفكار وصراع ثنائيات الحرية والاستبداد، الماضى والحاضر، النص الأدبى والنص الدينى.