أعتقد أن واقع الترجمة فى حالنا اليومى لا يخفى على أحد، وما يعانيه المترجمون نعرفه أيضا، وندرك جميعا أهمية الترجمة وقلة حيلتنا فى تحويلها إلى ظاهرة مجتمعية، وفى كل مرة نظل نردد العلل ونسأل عن الحلول دون طائل.
ففى سنة 2014 نشر الدكتور على نجيب إبراهيم مقالة فى الحياة بعنوان «الترجمة فى العالم العربى بمشكلاتها الثلاث» يقول فيها: إن المشكلة الأولى نابعة من أن الترجمة لا يُمكن أن تكون موضوع جهد فردى، بل هى مشروع جماعى يستجيب لحاجات اجتماعية كبرى تتصل بثقافة وطن، وفكره، وحياته الروحية. إنها المجال الذى تستنفد فيه الذات كامل طاقاتها من أجل الجماعة، لذا يستحيل أن تنشأ حركة ترجمة غير مرتبطة بمشروع متكامل، الطهطاوى من خلال كتابه الاستكشافى «تخليص الإبريز فى تلخيص باريس»، ومنهجه التربوى، وتجديده اللغوى فى كتاب « التحفة المكتبية فى تقريب اللغة العربية»، وطه حسين من خلال مذهب الشك الذى تلازم مع كتبه، وخصوصاً مقالاته النقدية المتضمّنة فى «حديث الأربعاء»، ومقدّماته لمؤلّفات أدباء عصره ومُترجميه، ومشروع مصطفى زيوار فى تأسيس قسم التحليل النفسى فى جامعة عين شمس، وموازاته بحركة ترجمة ناشطة من خلال «لجنة الترجمة والتأليف والنشر»، التى برعت فى مشروعاتها أقلام كبار المفكرين والمترجمين والكتّاب الذين يضيق المجال عن ذكر أسمائهم، ولعل عدم ارتباط الترجمة بمشروع كمشروعات عصر النهضة، يؤدى إلى توليد أسئلة إنشائية لا جدوى منها، كأن نتساءل مثلاً عما إذا كانت الترجمة مرتبطة بشعرية المعرفة أم بفائدتها أم بذرائعيتها، أو عما إذا كانت الترجمة خيانة أم لا، أو عن صفات المترجم الناجح؟ لأن فى مثل هذه الأسئلة الدليل على الدوران فى حلقة مفرغة، لا بل على انحراف الغايات الناتج عن تبعثر الجهود وعدم انتظامها ضمن حركة جماعية متكاملة.
المشكلة الثانية: افتقار الترجمة عندنا إلى روح المنظومة التى تُحدّد خصائصها، وتُصنِّف مجالاتها، وتُرسى قواعد جهازها الاصطلاحى، وبغير ذلك لا يمكن أن يكون لها كيان ولا تاريخ يسمح بمعرفة سياقها، ورصد إنجازاتها، فمشروع النهضة الذى جاء ، فى المحصّلة، نتيجة جهود جبارة غالباً ما أعطت ثمارها التى نتلذّذ بمذاقها اليوم، يصلح أن يكون قاعدة لبناء هذه المنظومة وتحديد اتجاهاتها النظرية والتطبيقية، التى تُقاس عليها التجارب السابقة واللاحقة، ومع ذلك، لانزال نتناولها ضمن الإطار العام لعوامل النهضة العربية الحديثة من دون أن نتنبّه إلى حضور الترجمة حتى فى أكثر ظروف حياتنا خصوصية، وهكذا تُسهِم سهولة الاتصال والحصول على المعلومة فى إعاقة عملية مواكبتنا للعصر الذى نعيش فيه مواكبةً منتجة لا منفعلة وتابعة.
تتصل المشكلة الثالثة، المتفرّعة عن السابقة، بمدى تأثير فعل الترجمة فى الواقع، إذ غالباً ما يظهر هذا التأثير بشكل غير مباشر، ويعطى انطباعاً بأن هناك ثباتاً فى قضايا الترجمة التى لا تزيد على تحقيق شروط معينة لا بُدّ من توافرها فى عناصر فعل الترجمة الثلاثة التى يتوسطها المترجم، وربما كان هذا وراء عدم قدرة النصوص المُترجَمة على شحذ فعل التفكير وتحريضه على إنشاء متون عربية بالانطلاق من المتون الأجنبية المُترجَمة، والشروع فى ضبط المبادئ الأساسية لمنهج تحليل نظرى قابل للتعميم والتطبيق على حد سواء، ذلك أن العرب يُترجمون ولا يُدرجون المتون المترجمة فى أنساق التعليم المدرسى والجامعى وما بعد الجامعى، فتتراكم الترجمات المعروضة على القراءة الحرّة التى تنحسر كل يوم أمام وسائل المعلوماتية، وتقنياتها المتطوّرة، وتؤول بالكم المترجَم إلى سلعة تكتوى بقانون السوق الذى يقلّ فيه الطلب ويُطِلّ فيه العرض على شبح الكساد.