أيام قليلة ونستقبل عامًا هجريًّا جديدًا ندعو الله أن يكون أفضل من سابقه ، وأن يعيد بيننا اللُّحمة والمودة ، وأن ينعم على بلادنا بالأمن والأمان والسلام والرخاء . وحين نتأمل العام الهجرى نرى ملمحًا لطيفًا فى الارتباط بين بدئه ومنتهاه ، فإذا كان الحج ختام العام الهجري، فإن الهجرة النبوية بدايته. ولا شك أن تأملنا لرحلة الحج أو لرحلة الهجرة يعود علينا بالدروس والعظات والعِبر ؛ إذ هما رحلتان مباركتان ، وما كان النبى - صلى الله عليه وسلم - إلا قدوة لنا ، وما كانت حياته فى كل تفصيلاتها إلا نبراسًا يبدد الظلمات من حولنا .
فإذا تأملنا رحلة الحج نجد أن الحاج يهجر ماله وولده ووطنه ودنياه كلها مهاجرًا إلى ربه عز وجل ، مقبلًا عليه ، مستدبرًا للدنيا وما فيها ، متوشحًا بإحرام كأنه بُعث لحشره . والحاج فى طريقه إلى أداء مناسكه يقطع رحلة الهجرة النبوية التى سار فيها المصطفى- صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أبو بكر الصديق، ومَن لحق بهما من المهاجرين - رضى الله عنهم أجمعين - إن كانت زيارته للمدينة بعد فراغه من نسك مكة المكرمة، فبين رحلتى الحج والهجرة رباط عجيب يأخذ منه المسلم زادًا طيبا .
ومن المعلوم أن المسافة من مكة إلى المدينة طويلة جدًّا، ويعانى الحجاج فى رحلتهم من مكة إلى المدينة من المشقة ما يعانون بالرغم من سفرهم فى حافلات مكيفة وعلى طرق ممهدة ، وهذا يجعلنا نتأمل كيف قطع النبى - صلى الله عليه وسلم - هذه المسافة مع صاحبه أبى بكر الصديق فى أرض غير ممهدة ، وخلال صحراء جرداء قاحلة بقى منها اليوم جبال على جنبات الطريق تشهد بوعورة السير فيها يومئذ ، وعبر دابة تسير فى حر قائظ ، فضلًا عن إحساس بالخطر الداهم من قريش التى بعثت عيونها الخبيرة بدروب الصحراء يطلبون النبى - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه على مائة ناقة !
وإذا كان الحاج قد ترك ماله وولده ووطنه إلى حين ، فعليه أن يتذكر أن النبى محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه - رضوان الله عليهم - تركوا كل هذا وأكثر منه إلى غير رجعة ، أو إلى رجعة لم يكن يعرف موعدها إلا الله عز وجل .
وإذا كانت عيون الحجيج تدمع وهم يودعون الأهل والأحبة أيامًا معدودة فى رحلة طيبة يعرف الحاج وأهله بدايتها ونهايتها وجميع تفاصيلها، فعليهم استحضار مشهد النبى محمد – صلى الله عليه وسلم - وهو على مشارف مكة مفارقًا لها بعد أن ضيَّق سادتها وكبراؤها عليه فى دعوته وآذوه ومَن آمن معه إيذاء شديدًا ؛ حيث يقول وهو يلتفت إلى مكة : «إِنِّى لأَعْلَمُ أَنَّكِ أَحَبُّ بِلادِ اللَّهِ إِلَيَّ، وَأَكْرَمُهُ عَلَى اللَّهِ، وَلَوْلا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِى مَا خَرَجْت» .
وإذا كان الحاج ينفق بعض ماله فى هذه الرحلة المباركة ويَعُدُّه كثيرًا ، فعليه أن يتذكر ما أنفقه أبو بكر الصديق - رضى الله عنه - لإتمام رحلة الهجرة بداية من تجهيز الراحلتين إلى تسخير غنمه وعياله جنودًا لإتمام هذه الرحلة . وليتذكر الحاج أيضًا صهيبًا الرومى حين خرج مهاجرًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتبعه نفر من المشركين ، فنثر كنانته وقال لهم : يا معشر قريش ، قد تعلمون أنى مِن أرماكم ، واللهِ لا تصلون إلى حتى أرميكم بكل سهم معى ، ثم أضربكم بسيفى ما بقى منه فى يدى شيء ، فإن كنتم تريدون مالى دللتكم عليه . قالوا : فدُلنا على مالك ونخلى عنك . فتعاهدوا على ذلك، فدلهم ولَحق برسول الله صلى الله عليه وسلم. وليتأمل الحاج كيف ترك صهيب الرومى لهم ماله الذى هو من كسبه وليس منحة منهم ولا هدية ، وهو القادر على قتالهم، كل ذلك من أجل أن يلحق برسول الله، فاستحق البشرى من الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «رَبِحَ البيع أبا يحيى»، وفيه نزل قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}.
وإذا كانت المرأة بطبيعة تكوينها النفسى والفسيولوجى تشفق على أولادها الذين تركتهم وذهبت للحج ، مع أنها تتركهم فى غير ضيعة ولا تهديد ، فلتستحضر قصة أم سلمة وكيف فُرِّقَ بينها وبين ولدها وزوجها حتى جمع الله شملهم فى المدينة المنورة بعد حين من الزمان .
وإذا اختلف الحاج مع جاره على موضع النوم مثلًا بضع ساعات فى خيام مِنى وعرفات، فليستحضر موقف الأنصار من إخوانهم المهاجرين، ذلك الموقف الذى مدحه رب العالمين فى قوله سبحانه : {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وإذا كان بعض الناس قد وفقهم الله لخدمة الحجيج وحرصوا على أمنهم وسلامتهم ووصلوا ليلهم بنهارهم لإتمام مهام عملهم ، فلعلهم يجدون الأنس والسلوى بما كان يفعله الصديق رضى الله عنه ؛ إذ كان ينتقل من موقع إلى آخر حول رسول الله ليفتديه بنفسه إن كان ثمة خطر يداهمه .
وليعلم كل حاج أنه إن كان قد قصد بيت الله بعمرته وحجه طلبًا للمغفرة وتصالحًا مع خالقه ، فإن هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - كانت فرارًا بدين الله المختار ؛ إذ كادت دعوته تختنق بمكة. وإن كنت أيها الحاج تزور مدينة رسول الله لتسلم عليه، فتذكر أنها كانت وجهة هجرته وحاضنة رسالته ، وتذكر وأنت تسلم على خليفتيه أبى بكر الصديق وعمر الفاروق - رضى الله عنهما - إلى جواره ، أنهما من خيرة صحابته، وكلهم أخيار . فإذا زرت قباء ، فتذكر أنه من أول أعمال رسولنا بعد هجرته . وإذا أتم الله عليك حجك وعدت مغفورًا لك بإذن الله إلى وطنك وأهلك بأن كانت رحلتك من حلال ولم تصخب فى حجك ولم ترفث ، فاعلم أنك قد وُلدت بفضل الله ورحمته من جديد ، وأن حجك وقد هجرت به ذنوبك إنما هو بداية تصحيح المسار واستقامة الحال، كما كانت الهجرة انطلاقة جديدة لرسالة الإسلام، وفتحًا مبينًا عمَّ الكون كله بالخير .
وليعلم كل مَن لم يستطع الحج ولكنه صام يوم عرفة إيمانًا واحتسابًا ، أن الله تعالى قد غفر له سنتين سنة ماضية وسنة آتية. ولذا، فعلى مَن مَنَّ الله عليه بالحج ، ومَن صام يوم عرفة راجيًا الأجر والثواب من الله عز وجل، وعلى كل المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها وهم يستقبلون العام الهجرى الجديد ، أن يستحضروا الهجرة النبوية ، وأن يتعلموا من دروسها تطبيقًا لا ترديدًا، وأن يحفظوا صحيفتهم ناصعة نقية، وأن يكونوا محبين لأوطانهم تأسيًا واقتداء برسولنا الكريم ، وأن يؤثروا على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة تأسيًا واقتداء بإيثار الأنصار وعطائهم، وأن يتعففوا ويجتهدوا فى طلب الرزق تأسيًا واقتداء بالمهاجرين، رضى الله عنهم جميعًا .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة