فى لحظة فارقة أصبحت السياسة البريطانية فى مهب الريح، سقطت كل الأيادى المساعدة لرئيسة الوزراء تريزا ماى ما بين استقالات متتالية لأهم رفقائها فى الحزب والحكومة وظهور حالة واضحة من عدم الثقة فيما تتخذه من قرارات مصيرية واشتعال الموقف الداخلى ما بين مؤيد ومعارض لعملية الخروج من المنظومة الأوروبية، بات واضحا عدم اقتناع الأغلبية من المواطنين والسياسيين البريطانيين على الطريقة المُذلة التى انتهجتها ماى مؤخراً، بل يرى الجميع أنها أصبحت تابعة للإدارتين الأمريكية والأوروبية لدرجة قد همشت القرار البريطانى، وساهمت فى اهتزاز السياسة الداخلية والخارجية، وظهورها فى موقف الضعيف للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية أدى ذلك التوتر إلى ظهور عشرات استطلاعات الرأى لإعادة النظر فى عملية الخروج والإبقاء داخل المجتمع الأوروبي.
فقد وصلت نسبة المؤيدين لإجراء استفتاء ثانى مؤخراً حوالى 60% بزيادة 10% عن استفتاء الخروج عام 2016، وبات بوريس جونسون الوزير السابق للخارجية أقوى المرشحين لخلافة تريزا ماى فى الحزب والحكومة، وهو للأسف أحد أقوى رفقاء ماى سابقاً لكنه يتهمها الآن وبوضوح بأنها تريد أن تُحيل بريطانيا إلى مستعمرة أوروبية، وأن القوانين الأوروبية ستُكتب خارج البلاد للمرة الأولى وتُفرض بعد ذلك على البريطانيين من خلال محاكم أجنبية، لذا أصبح الخروج خروجاً مُهيناً وضع المملكة المتحدة فى ورطة حقيقية كما يقول أغلب السكان المحليين المطالبين باتخاذ موقف جماعى للإفلات من هذه الورطة بل والانقلاب عليها، خاصة مع قُرب الموعد النهائى لإيجاد حلول جذرية لاتفاق الانفصال، والمحتمل أن تظهر اغلب آلياته بحلول شهر أكتوبر المقبل، حيث يتخوف البريطانيون من السيناريوهات المخيفة التى تُصِر عليها رئيسة الوزراء لإنهاء عملية الطلاق الأوروبى مهما كانت النتائج، وتقوم بالتجديف بل وتسبح ضد التيار مُنفردة رغم أصوات المعارضة التى تعالت داخلياً وخارجياً والأسئلة الكثيرة التى شغلت الرأى العام، والخوف من انهيارات آتية ومحتملة من جراء هذا الإصرار غير المُبَرر على الرغم من أن الأسواق مقبلة على انهيارات متوقعة لمنظومة الغذاء التى تستورد بريطانيا 80% منها من السوق الأوروبية.
وقد يؤدى عدم إبرام أى اتفاق تجارى حر مع بروكسل لانتظار مؤكد ولساعات طويلة لشحنات الغذاء الآتية من أوروبا للتفتيش داخل الجمارك قد يؤدى إلى إتلاف الكثير منها، خاصة الأغذية غير المُثلجة ليتأثر الشارع بذلك، ويساهم هذا التأخير فى اشتعال الأسعار وخلق حالة من الإضطراب داخل الاسواق المحلية قد تؤدى إلى انهيار محتمل وينطبق نفس الشىء على منظومة الدواء والوفاة الإكلينيكية المُحتملة أيضا لحى المال بلندن، بعد رحيل لمعظم المصارف العالمية إلى باريس.
قد تتوقف أيضاً صناعة السيارات لارتباطها المباشر بالاتحاد الأوروبى، ولعل أكثر السيناريوهات خطراً على الداخل البريطانى وسيكون سبباً فى اهتزاز صورتها أمام العالم ما تردد مؤخراً بأن هناك خططا سرية للحكومة لنشر قوات الجيش لإمداد المناطق بالأغذية والأدوية والوقود، فيما يسمى بخطة الطوارئ المُحتملة لإنقاذ الموقف الداخلى حال الخروج دون اتفاق واضح مع أوروبا، ورغم عدم نفى أو تأكيد هذه المعلومة إلا أنه بات واضحاً للجميع أن حلم البريكست أصبح كابوساً حقيقياً تسببت فيه حكومة المحافظين، وكلما حاولت الخروج بالمجتمع منه قفزت به إلى القاع ولا يوجد لديها حتى الآن لدى أية بدائل إلا أنها مُصممة على أن تُعَرض البلاد لاضطرابات غير مسبوقة فى الإمدادات المخصصة لاحتياجات المواطنين الضرورية، لأنها تستورد اكثر من نصف ما تستهلكه فى جميع القطاعات من الاتحاد الاوروبى.
لذلك أصبحت سفينة تريزا ماى وحلم البريكست يترنحان نحو المجهول، ومما زاد الأمور الداخلية تعقيداً الاتهام المباشر من المنظمات اليهودية لزعيم حزب العمال المعارض جيريمى كوربين الذى كان مؤهلاً حتى أيام قليلة، ليكون المنقذ للمملكة المتحدة من تصرفات غير مسئولة لحكومة المحافظين كانت كفيلة بوضعه على رئاسة الحكومة وتوجيه الدفة نحو الإبقاء على بريطانيا داخل المنظومة الأوروبية، لكن القدر كان اقوى من تطلعات كوربين حيث وقع فى فخ معاداة السامية بل أنه وضع اليسار البريطانى بأكمله داخل النفق المظلم وماتت معه آخر محاولات الإنقاذ لاستمرار بريطانيا داخل المنظومة الأوروبية، حيث اتهمته عدة جهات ومنظمات يهودية بأنه مُعَادى للسامية، كما اتهمت الصحف الإسرائيلية وسائل الإعلام البريطانية، لاهتمامها بتسليط الضوء على من يعادى السامية والتمجيد الواضع لشخصية كوربين وفرضه على الرأى العام لدرجة أجبرت الصحف البريطانية بالعودة للوراء واتهام كوربين بأنه معادٍ للسامية، وبذلك أُبعِد تماما عن المشهد لكونه قائدا لليسار البريطانى المتشدد والمُعادى لإسرائيل كما وصفته صحف تل أبيب، وإظهار عدد من التسجيلات القديمة له يُشيد فيها بحزب الله اللبنانى وحركة حماس المتشددة والموضوعة على قوائم الإرهاب ووصفه الدقيق بأنهما أصدقائه المقربين.
فكتبت هذه التصريحات خط النهاية لمستقبل جيريمى كوربين وحذفت كل الفرص التى كانت ستدفعه بقوة لخلافة تريزا ماى بل وضعت مكانه بوريس جونسون الذى يتصدر استطلاعات الرأى مدعوما من الهيئات والمنظمات اليهودية كأقرب شخصية قادرة على إنقاذ ما يمكن إنقاذه .
لقد تعددت الصور واختلفت الروايات وأصبحت بريطانيا العظمى بسبب سياسات فاشلة فى موقف لا تُحسد عليه وتقع بين ضفتى صراع للمرة الأولى فى تاريخها فهى مُقبلة على خروج مُهين دون اتفاق واضح مع الأوروبيين وبشروطهم القاسية، فى خطوة قد تهدد الاقتصاد البريطانى وتطيح بالجنيه الاسترلينى لمستوى أدنى من الدولار الأمريكى ومعاداة واضحة للسامية، وفقدان الثقة فى اليسار البريطانى الذى يمثل مايقرب من نصف المجتمع المحلى.
فماذا يخبئ الغد المُخيف إذا للمملكة التى لم يَغِب عنها الشمس قروناً عديدة هل لديها بدائل أخرى أم سيجرفها تيار الاضطرابات والانهيار الاقتصادى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة