يحتدم الخلاف فى وجهات النظر كلما نشط الحديث عن الزيادة السكانية وأثرها على الأسرة والمجتمع، فهناك فريق يدعو إلى التكاثر والتناسل بلا ضوابط أو حدود، بل حتى دون أدنى مراعاة لما ستعانيه الأسرة كثيرة الإنجاب من أعباء وما سيعود على المجتمع من آثار سلبية نتيجة هذه الزيادة غير المنظمة، وآخر يدعو إلى ضرورة تحديد النسل، بل قد يبلغ الأمر عند هؤلاء حد الزهد فى التناسل أصلًا، وثالث يقر بالأثر السلبى للزيادة السكانية على الأسرة والمجتمع لكنه يفرق بين تنظيم النسل وتحديده.
ومن أصحاب الفريق الأول مَن سيطرت عليهم ثقافات وتقاليد اجتماعية خاطئة توارثتها الأجيال نتيجة عدم الوعى، ومنهم مَن يبررون موقفهم بترديد بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التى يرون أنها تدعو إلى التكاثر والتناسل مطلقًا دون أن يكلفوا أنفسهم مئونة التمعن فى فهمها والوقوف على المراد الصحيح منها، فأغلب هذه النصوص مقتطع من سياقه ولم يُفهم على وجهه الصحيح، ومنها قول النبى، صلى الله عليه وسلم: «تزوجوا الودود الولود فإنى مكاثر بكم الأمم»، فالسياق الكامل لهذا الحديث أن معقل بن يسار، رضى الله عنه، قال: «جاء رجل إلى النبى فقال: إنى أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال: لا. ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: تزوجوا الودود الولود؛ فإنى مكاثر بكم الأمم»، فمن الخطأ تأويل هذا الحديث، أو غيره من النصوص، على أنه دعوة لتحقيق كثرة الأمة التى سيباهى بها النبى الأمم يوم القيامة؛ إذ إن المباهاة لا تكون إلا بالكثرة المقترنة بالاتحاد والقوة والتقدم، وإلا فما قيمتها إذا شتتها صراعات أبنائها فيما بينهم، واستشرى فيها الضعف والمرض، وملأ الجهل عقول أبنائها فأضحت عاجزة عن توفير حياة كريمة عزيزة لهم، فضلًا عن مواكبة العصر ومستجداته؟!
وعليه، فإن المراد بالكثرة التى يُباهَى بها هى تلك الكثرة التى تستطيع القيام على شؤونها من تربية سوية، وتعليم متطور، وتغذية سليمة، ورعاية صحية مناسبة، ومسكن ملائم، تلك الكثرة التى تبنى مجد الأوطان وتحمى أمنها وتدافع عن حدودها، ولعل حال بلادنا العربية والإسلامية اليوم أصدق دليل على أن التباهى لا يكون بالكثرة العددية؛ فشعوبنا العربية والإسلامية مع كثرتهم وامتلاكهم ثروات هائلة وموقعًا استراتيجيًّا مميزًا، إلا أنهم ممزقون شر ممزق، قلوبهم شتى، وجهودهم مبعثرة، وكلمتهم واهية، وثرواتهم منهوبة، وأراضيهم مغتصبة، وحقوقهم ضائعة! وقد حذرنا رسولنا الكريم من مثل هذه الكثرة الضعيفة الواهية التى شبهها بغثاء السيل فقال: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله فى قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت».
أضف إلى ذلك، أن هؤلاء لا يتذرعون بمثل هذه النصوص المقتطعة من سياقها أو المفهومة على غير وجهها فقط، بل إن بعضهم يرى أن تنظيم النسل أو تحديده يتعارض مع ما يجب اعتقاده من قدرة الخالق عز وجل على القيام بشؤون خلقه دون نظر إلى سعيهم وأخذهم بأسباب جلب الرزق مقترنة بصدق التوكل على الله، وما الدعوة إلى تنظيم النسل، من وجهة نظرهم، إلا ستار يخفى وراءه هدفًا خبيثًا، وهو النيل من الأمة الإسلامية وإضعافها لتصبح لقمة سائغة لأعدائها!
وقد ذهب الشطط بأصحاب الفريق الثانى إلى حد منع الإنجاب من الأساس، بل وصل الأمر ببعضهم إلى حالة من الشذوذ تأنفها حتى الحيوانات، وهى ما يعرف بالمثلية؛ حيث يقضى هؤلاء المثليون شهوتهم دون نظر إلى حلال أو حرام أو حاجة الوطن إلى أجيال فتية تقوم على شؤونه وتذود عن حدوده.
وبعيدًا عن الإفراط والتفريط، فإن مَن يتدبر حكمة الخالق من خلق الإنسان، وهى عمارة الكون وتحقيق التكامل البشرى باختلاف البشر نوعًا وقوة وضعفًا وغنى وفقرًا، ويتأمل الثروات والموارد الطبيعية وتفاوتها من مكان إلى آخر ومن دولة إلى أخرى؛ ليدرك بلا أدنى شك أن حياة الناس ستكون أفضل متى تحقق توازن الوجود البشرى مع الثروات والإمكانات المتاحة، وأن الزيادة العشوائية لأعداد السكان فى بلدٍ ما تؤدى بالضرورة إلى اختلال هذا التوازن، الأمر الذى سيترتب عليه زيادة فى المعاناة والعجز عن تحقيق حياة كريمة عزيزة لأبناء هذا البلد.
وقد بين شرعنا الحنيف أن التوسط والاعتدال أفضل الدرجات فى كل الأمور؛ فلا للحد من التناسل إلى درجةٍ تجعل المجتمع عاجزًا عن الوفاء بمتطلبات حمايته من أعدائه وزيادة الإنتاج وتوفير الأمان لأبنائه، ولا لإطلاق العنان للإنجاب بلا ضوابط، ودون توفير متطلبات الحياة الكريمة، وهذا هو ما يمكن استخلاصه من نصوص شرعنا الحنيف وتوجهاته العامة ومراد الله من خلق الإنسان.
ومن ثم، يجب على جميع المؤسسات الدينية والثقافية والتعليمية أن تتكاتف وتتضافر جهودها لنشر الوعى وتصحيح ما توارثته الأجيال من ثقافات وعادات اجتماعية خاطئة فى ما يتعلق بالإنجاب، فكلما زادت الأمية وتراجع الوعى وسيطرت التقاليد والثقافات المغلوطة - دينية كانت أو اجتماعية - وانتشرت لغة التواكل، ارتفعت مستويات الزيادة السكانية وزاد لهيب الأهواء المنحرفة ووقع المجتمع فى براثن التخلف والضلال، كما يجب على المؤسسات المعنية الأخرى، كلٌّ فى مجاله، التوسع فى غزو الصحراء الممتدة شرقًا وغربًا لاستصلاحها وزراعتها، وإنشاء المصانع والمشروعات والمدن الجديدة لتوفير فرص العمل والمأوى بما يستوعب الزيادات السكانية المطردة، وبيان المخاطر الطبية الناتجة عن كثرة الحمل وتتابعه على صحة المرأة والطفل، وإحياء الحملات الإعلامية التوعوية التى نشطت فى نهايات القرن الماضى وأحدثت أثرًا كبيرًا تجاوزت نتائجه الإيجابية مجتمعات المدن، وظهرت بوضوح فى القرى والريف بفضل الإعلانات التليفزيونية والأحاديث الإذاعية والزيارات الميدانية وانتشار مراكز تنظيم الأسرة، إذ حدَّت كثيرًا من وتيرة الزيادة السكانية، إلا أنها ما لبثت أن خبت رويدًا رويدًا.
وأخيرًا أقول إننا إذا أردنا علاجًا حقيقيًّا لمشكلة الزيادة السكانية فنحن فى حاجة إلى التعامل مع التنظيم السكانى وضبط معدلاته كثقافة دائمة لا كنشاط مؤقت يكون رد فعل لتفاقم أزمة أو اهتمام مسؤول سرعان ما يزول بتلاشى الأزمة أو تولى مسؤول جديد ليس فى حماس سابقه!