شركة نيتفلكس واسعة الانتشار قررت طرح فيلم «الملاك» المأخوذ عن كتاب بالعنوان نفسه للباحث الإسرائيلى أورى بار جوزيف، عن قصة حياة رجل الأعمال والسياسى أشرف مروان، فى دور العرض منتصف سبتمبر المقبل، وهذا يعنى باختصار شيوع وترسيخ وجهة النظر الإسرائيلية المزعومة حول مسار حياة السياسى أشرف مروان الذى لعب أدوارا مؤثرة منذ أواخر ستينيات القرن الماضى وحتى أواخر السبعينيات، أى منذ زواجه من منى عبد الناصر، كريمة الزعيم الراحل، مرورا بتأييده السادات فى صراعه مع مراكز القوى وعمله مستشارا سياسيا له، وحتى تحوله إلى أكثر أوراق السادات تأثيرا فى عملية الخداع الاستراتيجى التى سبقت حرب أكتوبر 1973.
الكتاب ومن بعده الفيلم يروجان لوجهة نظر الموساد الذى يرى أشرف مروان باعتباره أعظم جاسوس فى تاريخ إسرائيل، فهو الذى أمد الجهاز، بحسب الكتاب، بخطط الجيش قبل حرب أكتوبر ونوعيات تسليحه ونقاشات السادات وكبار مساعديه مع الخبراء السوفييت، وكذا المسار الحاكم لقرار الحرب فى القيادة المصرية والمرتبط بوصول الطائرات والأسلحة الحديثة من الاتحاد السوفييتى آنذاك إلى مصر، ووفق المعلومات التى ترد فى الكتاب فإن أجهزة الأمن الإسرائيلية والقيادة السياسية، قد بنت مواقفها من التعامل مع تلميحات وتهديدات السادات بالحرب على ما استطاع أشرف مروان زرعه من مفاهيم حاكمة حول صناعة قرار الحرب فى مصر والشروط اللازمة له، فكانت قيادات الدولة العبرية تتابع إمدادات السلاح لمصر من الاتحاد السوفييتى، وتطمئن إلى أن تهديدات السادات غير جادة مادامت القاهرة لم تتسلم أى صفقات سلاح ضخمة تغير موازين القوى آنذاك.
كما يسرد الكتاب ذلك الخلاف الشهير بين الموساد والمخابرات الحربية الإسرائيلية التى لم تأخذ مكالمة أشرف مروان يوم 4 أكتوبر بمحمل الجد، وهى المكالمة التى يزعم الإسرائيليون أن مروان أخبر فيها مسؤولو الموساد بموعد الحرب على الجبهتين المصرية والسورية وطبيعة سير القتال على الجبهتين من واقع الخطط الموضوعة، وهو ما لم تعره المخابرات الحربية الإسرائيلية اهتماما جادا، ومن ثم تعرضت للضربات الأولى المؤثرة التى صنعت من حرب أكتوبر جرحا إسرائيليا غائرا مازال ينزف حتى الآن، وما زال يثير الخلاف بين معسكرى الموساد والمخابرات الحربية، مثلما يثير الخلاف حول طبيعة الملاك أو العميل بابل أو الصهر أشرف مروان، وهل كان جاسوسا مهما حقا أم كان عميلا مزدوجا لمصر وإسرائيل معا أم كان مصريا وطنيا وجزءا من خطة السادات للخداع الاستراتيجى!
أذكر عندما صدر الكتاب، لم تكن الصحف المصرية فى مجملها حرة تماما فى التعرض له أو عرضه أو تفنيد ما جاء فيه، بل كان هناك اتفاق أو أمر بالتزام الصمت، وكأن الصمت يمكن أن يفند المزاعم الإسرائيلية الكثيرة الواردة فى الكتاب، وكأن عدم التعرض لما يرويه أورى بار جوزيف من متاهات معلوماتية وفبركات وقصص تخدم جهاز الموساد، سيدفع الناس فى الداخل والخارج إلى الإعراض عن الكتاب وتكذيب ما جاء فيه، والحق أن هذا الأسلوب أشبه ما يكون بأمر الانسحاب العشوائى بعد أن قصفت إسرائيل طائراتنا وهى على الأرض فى 1967، فقد أخلينا مساحات كبيرة من الأرض أمام القوات الإسرائيلية لتحتلها دون قتال ولتحقق نصرا زائفا، واليوم نترك مساحة كبيرة من الأرض الإعلامية ومن أذهان أبنائنا وسائر الشباب العربى لتحتله الرواية الإسرائيلية المزيفة عبر فيلم واسع الانتشار، سوف تشاهده أجيال لم تسمع أو تقرأ عن عبقرية الجيش المصرى وعن دهاء السادات وخططه فى خداع تل أبيب، لتصدق أن أشرف مروان كان أعظم جواسيس إسرائيل.
هل نستمر على هذا المنوال فى تعطيل أسلحتنا بأنفسنا؟ أم نخطط لنصر إعلامى ووثائقى يذكرهم بحقيقة ما حدث فى حرب أكتوبر؟