كنت هناك وكانت كل المشاهد مختلفة، ما نراه على الشاشات من متابعات وإحياء للذكرى، وإعادة دراسة وتحليل تبعات الزلزال الأكبر يختلف تمامًا مع ما هو حاضر فى الأرض والأجواء التى شهدت تفجيرات الحادى عشر من سبتمبر، التى تحولت إلى نقطة فاصلة يؤرخ لما يدور فى العالم بما قبلها وما بعدها.
لا أهتم هنا بمن فجّر، ولا أنشغل كثيرًا بشكل العالم الذى تغير بعد انفجار الطائرتين فى برج التجارة العالمى بقلب نيويورك فقط بعد كل هذه السنوات، وفى ذكرى تفجيرات سبتمبر بات من المهم دراسة وتدبر التعامل الأمريكى المجتمعى والثقافى مع ما حدث فى «المنطقة صفر» أو «الجرواند زيرو».
مع كل حلول لذكرى تفجيرات 11 سبتمبر، تنشغل وسائل الإعلام العربية تحديدًا بدراسة التبعات السياسية والعسكرية لما حدث، ولم يحدث أبدًا أن قررت صحيفة أو كاميرا عربية أن تدرس أو تتدبر فى الأثر النفسى والمجتمعى الذى يبدو ظاهرًا مع كل احتفال أمريكى بذكرى الطلقة التى استقرت فى رأس غرور المنظومة الأمنية الأمريكية.
راجعت شريط ذاكرتى، وعدت للصور التى التقطها، ودققت فيما كتبته من وقائع وسجلته من أحداث طوال ساعات وجودى فى منطقة انهيار البرجين أثناء الاحتفال بذكرى الحادى عشر من سبتمبر، وأتذكر مشهد الشيخ يوسف الكهل المسلم صاحب الأصول الأفريقية الذى افترش الأرض فى منطقة «الجرواند زيرو»، وفتح مصحفه، وأخذ يتلو منه ما تيسر من آيات الذكر الحكيم، وقرأ نصف القرآن تقريبًا من الصباح حتى وقت المغرب، رافعًا بجواره لافتة تطلب من لديه أى استفسار أو سؤال عن القرآن أن يسأله بلا تردد مع وعد بأن يجيب بكل صدق، ومثلما رأيت الشيخ يوسف رأيت أصواتًا وهتافات صادرة من أمريكان مسلمين وغير مسلمين تؤيد إقامة مسجد فى المنطقة التى شهدت تفجيرات غلفها شعار الإرهاب الإسلامى، وتعتبره حقًا مشروعًا، ومن بينهم بعض أهالى ضحايا الحادى عشر من سبتمبر، والذين أسسوا رابطة اسمها «عائلات ضحايا 11 سبتمبر من أجل مستقبل أكثر سلامًا»، وقبل أن أرى هذا وذاك كنت قد سمعت عمدة نيويورك وأغلب أعضاء البلدية وهم يعودون للتأكيد بكل شجاعة على تأييدهم لإقامة المسجد، لأن نيويورك لن تفتخر يومًا ما أنها منعت أحدًا من العبادة أيًا كان دينه.
الشيخ فيصل عبدالرؤوف، المشرف وقتها على مشروع إنشاء المسجد بالقرب من موقع هجمات 11 سبتمبر 2001، استنكر التعامل الإعلامى العربى مع قضايا المسلمين فى أمريكا خلال سنوات ما بعد تفجير، واصفًا إياه بأنه يشتت الانتباه عن القضية الأساسية، وهى قضية الصراع بين التطرف والاعتدال فى نيويورك والولايات المتحدة عموما، مشيرًا إلى ضرورة تركيز الجهود فى تعريف المجتمع الأمريكى بطبيعة وسماحة الإسلام، والتأكيد على أن التطرف ينبغى محاربته بالتعاون بين الأديان المختلفة، كلام الشيخ فيصل انتهى وربما لا يعرف الكثيرون أن المنزل الذى تم تخصيص أرضه لكى تصبح مكان المسجد تبعد عن منطقة انهيار البرجين بشارع واحد فقط، وهى ملك لأمريكى من أصول مصرية اسمه شريف.
أترك مسألة المسجد بعد أن أصبحت واقعًا، وكشفت بتفاصيلها حالة التغييب الذى يعيشه الإعلام العربى فى التعامل مع أزمات المسلمين فى الغرب، وأعود إلى الجانب المهم الذى يسيطر على احتفالات ذكرى الحادى عشر من سبتمبر بالخرافات والتعاليم الدينية.
خرافات نهاية العالم والخرافات الدينية مثل تجلى المسيح ورسالة السماء التى تجلت فى هيئة الصليب الذى سقط من البرجين والكنيسة المقدسة التى لم يمسسها غبار سقوط البرجين، والذى غطى نصف نيويورك، ولم يقترب من الكنيسة المقابلة له تمامًا، والشباب الذين حولوا أحداث الحادى عشر من سبتمبر إلى أغان دينية تذكر أهل أمريكا بالدين والكنيسة وجحيم الانحلال، كل هذا وأكثر منه يشكل الجانب الأكبر من احتفالات الأمريكان بذكرى الحادى عشر من سبتمبر.
جماعات كنسية ترتدى أزياء صفراء موحدة تدعو للمسيح وتدعو الأمريكان للعودة إلى الكنيسة وتذكرهم بأحداث الحادى عشر من سبتمبر وآخرون يقودهم رجل فى الخمسينات من عمره يوزعون بعض الرسائل التى تتحدث عن نهاية العالم القريبة ويشرحون للناس ولزوار منطقة البرجين كيفية الاستعداد للنهاية، وآخرون صنعوا من أشهر الصور الخاصة بانهيار البرجين ألبوما للذكرى سعر الواحد 5 دولارات، وآخرون يرتدون زيا فضائيا ويعتبرون ما حدث انتقام كائنات فضائية من أهل الأرض وتبشير بغزو قادم يجب الاستعداد له، أما أغرب الأشياء فكانت قطعة الحديد التى سقطت من البرج الثانى وتشبه الصليب وزرعها الأمريكان بجوار أحد الأماكن القريبة من منطقة انهيار البرجين واعتبروها مزارا دينيا ورسالة سماوية بضرورة العودة إلى الدين وأسفلها تجد الكثيرين جالسين للصلاة والكثير من الشموع والورود.