من بين جميع الإدارات الأمريكية المتتابعة منذ عام 1948، عام النكبة الفلسطينية، تنفرد إدارة الرئيس ترامب برؤية خاصة جدًا لحل القضية الأقدم فى العالم، وهذه الرؤية ببساطة تقوم على إلغاء ثوابت الشعب الفلسطينى ونفى وجود القضية أصلًا، وكأن الإنكار المدفوع بالقوة الغاشمة يمكن أن يسكت صوت الفلسطينيين، وكأن المفهوم الجديد الذى تتبعه إدارة ترامب من محاولة فرض مفهومها على العالم، يعنى أنها فرضت واقعًا جديدًا ما دامت هى تراه واقعًا وليس واقعًا افتراضيًا يرفضه العالم.
وعلى مدى السبعين عامًا الماضية، لم تجرؤ أى إدارة أمريكية سابقة أن تنفى الحقوق الثابتة للشعب الفلسطينى والقرارات الأممية الصادرة للتأكيد على حقوقه، خاصة حقه فى دولة مستقلة على كامل حدود الرابع من يونيو 1967، ولم يحاول أى رئيس أمريكى قبل ترامب أن يصل إلى حل للقضية بإطلاق الرصاص على الآمال والثوابت الفلسطينية معًا، الآمال فى نيل الاستقلال والتحرر من الاحتلال، واستعادة الشتات الفلسطينى إلى الدولة الوليدة وعاصمتها القدس الشرقية.
لكن ها هو ترامب يتصور أنه قادر على صناعة الواقع الجديد من العدم، وحل المعضلة الفلسطينية عكس التاريخ والعدالة والحقوق الثابتة، فإذا كانت القدس تمثل إحدى العقبات الكبرى التى تحول موافقة الاحتلال الإسرائيلى على توقيع اتفاق نهائى شامل يتضمن الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فليكن الاعتراف الأمريكى بالقدس عاصمة موحدة للدولة العبرية، وليكن نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، ثم استبعاد ملف القدس من أى مفاوضات محتملة بين الجانبين تحت الرعاية الأمريكية السامية.
وإذا كان حق العودة لنحو ستة ملايين فلسطينى فى الشتات لا يسقط بالتقادم، ولا يمكن التحايل عليه بقرار، حتى لو كان قرار رئيس الدولة الفلسطينى، فليكن تجفيف منابع منظمة الأونروا التى تتولى الإنفاق على المدارس والمستشفيات للفلسطينيين فى المخيمات، ولتتوقف منظمة الأونروا نفسها عن أداء عملها، والهدف طبعًا إجبار الدول العربية التى تضم مخيمات للاجئين الفلسطينيين على توطين هؤلاء اللاجئين، بالمخالفة لقرارات الجامعة العربية، ومنح إسرائيل الضمانات بألا يعود الفلسطينيون فى الشتات للضفة الغربية مرة أخرى، خاصة وهى تريد الإبقاء على كتلة المستوطنات الكبرى تحت إدارتها وإجراء نوع من تبادل الأراضى مع السلطة الفلسطينية بمنحها مساحات بديلة.
رؤية ترامب التى تقوم على إرضاء الدولة العبرية بالوقوف إلى يمين رئيس الوزراء الإسرائيلى والمغالاة فى مطالبة الفلسطينيين بالتخلى عن ثوابتهم مقابل مجموعة من المميزات المالية التافهة، هى رؤية بعيدة كل البعد عن ثوابت التاريخ والجغرافيا، وتستمد وجودها من التاريخ الأمريكى المحدود، وهو تاريخ من ممارسات التحايل والسطو على أراضى قبائل الهنود الحمر بطريقة كوميدية ومأساوية فى الوقت نفسه.
ولكن شتان بين زمن السطو على حقوق الهنود الحمر واللحظة الراهنة التى لا يمكن لقوة مهما بلغت من التجبر والبطش، أن تغير ثوابت التاريخ أو تفرض واقعًا استعماريًا جديدًا، وليسأل ترامب إدارته، لماذا لم تهرول الدول الكبرى والصغرى وراءه وتنقل سفاراتها من تل أبيب إلى القدس؟ ولماذا لم تقبل دول العالم بما فيها الدول الأوروبية بما يعرف بصفقة القرن لحل القضية الفلسطينية؟
إن أى حل للقضية الفلسطينية لا يحترم حقوق الشعب الفلسطينى والقرارات الأممية المتعلقة به، لن يصادف أى نجاح، وسيظل الشعب الفلسطينى صابرًا مناضلًا مقاومًا بحضوره البشرى الخصب حتى يبتلع الاحتلال، ويحوله إلى أقلية عنصرية ملفوظة من العالم أجمع، حتى لو اختارت الإدارة الأمريكية أن تنكر وجود القضية الفلسطينية أو تلغيها من الوجود!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة