حين تأسسَت عام 1922م، صار قَدَرُ "جمعية محبى الفنون الجميلة" أن تكون بذلك أقدم الجمعيات الفنية والثقافية وأعـرقِها، لا فى مصر فَحَسب، بل فى الشرق الأوسط بأَسرِه.
وعلى امتداد ما يقـرُب من ستة وتسعين عاماً، لعبت هذه الجمعية الاستثنائية دوراً حيوياً فى دعـم حركة الثقافة المصرية، ولا سيَّما بعد أن شمَلتها الرعاية الملكية، إبّان عَهدَى الملكَين السابقَين "أحمد فؤاد الأول" و"فاروق الأول"، لِيَحفَل نشاطُها بالمعارض والمسابقات الفنـية، والندوات، والاحتفاليات الثقافية المحلية والدولية، على نحوٍ قَيَّض لها أن تُسهِم فى صَوغ ملامح الفن المصرى الحديث، وأن تَمُد جسور التلاقى الثقافى مع الغرب، على امتداد الربع الثانى من القرن العشرين.
ولكى نتصوُّر مدى ما بلغته هذه الجمعية من رِفعة المكانة وسِعة القُدرة، منذ بداية تأسيسها، يكفى أن نعلم أنها تأسست برئاسة الأمير "يوسف كمال"، أكبر رعاة الفنون فى مصر، ومؤسس "مدرسة الفنون الجميلة"، وأن "محمد محمود خليل"، رئيس مجلس الشيوخ المصرى ما بين عامَى 1939 و1940، وصاحب المتحف الشهير بالقاهرة، كان أول أمينٍ عامٍ لها، قبل أن يَتولى رئاستها خَلَفاً لـ"يوسف كمال" من عام 1925 إلى وفاته عام 1953، وأن المالى العتيد "يوسف قطاوي"، وزير مالية مصر خلال وزارة "أحمد زيوَر"، كان أول أمينٍ لصندوقها، وأن "شريف صبري" باشا، عضو مجلس الوصاية على العرش ما بين عامَى 1936 و1937، وخال الملك "فاروق"، كان نائباً لرئيسها لمدة طويلة، وأن كلاً من السيدة "هدى شعراوي" رائدة الحركة النسائية، والأميرة "شويكار"، كانتا من بين ممثلات اللجنة النسائية المشرفة على تنظيم معارض الجمعية الأولى.
وحين أقيم "صالون القاهرة" فى عام 1923 – وهو أهم معارض الجمعية، وأول صالون سنوى للفنون فى مصر - كان تحت رعاية الأميرة "سميحة حسين"، كريمة السلطان "حسين كامل"، التى كانت فنانة متمكنة، اشتركت فى عروض الجمعية الأولى أكثر من مرة. أما الأمير "محمد على توفيق"، نجل الخديو "توفيق"، وولى عهد مصر قبل ميلاد "فاروق"، فقد اشترك فى معرض الجمعية الأول بلوحات من أعماله. وحين أصدر الملك "فؤاد" مرسوماً ملكياً فى عام 1927، بتشكيل لجنة استشارية للفنون الجميلة، تتبع وزارة المعارف العمومية، ودَعَت هذه اللجنة إلى إنشاء "متحف الفن الحديث" فى القاهرة، كانت معروضات "جمعية محبى الفنون الجميلة" فى "صالون القاهرة" الرابع نواة هذا المتحف، وظلت صاحبة الولاية عليه لمدة تقارب عشرين عاماً.
وفى خِضَمّ هذا الزخم الكبير، لم يكُن من المُستغرَب أن تأتى إنجازاتُ الجمعية على مستوىً رفيع، لا تستطيع الإتيان بمثله حالياً إلا كُبرى المؤسسات الثقافية الدولية. وقد كان من بين هذه الإنجازات المضيئة، على سبيل المثال لا الحصر: استضافة الجمعية عام 1925 المسيو "ميجون" أمين متحف "اللوفر"، لإلقاء محاضرة فى القاهرة عن الفن الإسلامي، واستضافتها معرضاً للفن الإيطالى ومعرضاً للكتاب البلجيكى عام 1927، وتنظيمها معرضاً دولياً للتصوير الفوتوغرافي، استمرت دوراتُه من عام 1933 إلى عام 1950، وكان يشارك فيه ألمع فنانى الفوتوغرافيا على مستوى العالم، وتنظيمها معارض للفن الفارسي، خلال الأعوام 1935 و1943 و1945، تضَمَّنت بدائع من المقتنيات المتحفية ومجموعات مشاهير المُقتَنين، واستضافتها فى عام 1939 نخبةً من أعمال النحات العالمى "رودان"، أرسلها متحفُه خصّيصاً للقاهرة، وتنظيمها معرضاً دولياً للفن المعاصر عام 1947، ومعرضاً بعنوان "مصر – فرنسا" أقيم عام 1949 بمتحف "اللوفر"، واستضافتها عام 1953 معرضاً لأعمال الفنان الأشهر "ليوناردو دافنشي"، هذا بخلاف دورات "صالون القاهرة" السنوي، و"معرض الطلائع" لشباب الفنانين، اللذَين لمع بفَضلِهما العديدُ من فنانينا على مدى أكثر من نصـف قرن، وأثرَوا تاريخ الحركة الفنية المصرية – على وجه الخصوص - والعـربية عامةً.
وظل هذا دأبُ "جمعية محبى الفنون الجميلة"؛ بفضل إسهامات نخبة من أعلام مصر، مِمَّن كانوا يؤثِرونَها بجهودهم ودعمهم الأدبى والمالي، إدراكاً منهم لقيمة الفنون، ودورها فى ترسيخ القِيَم الحضارية فى الأوطان المتطلعة لصفوف الصدارة. وبفضل تلك الإسهامات، بلغَ من ثراء الجمعية وطموح القائمين على أمرِها ما قَيَّضَ ّلها فى يومٍ من الأيام امتلاكَ عرش "محمد علي" حاكم مصر! نعم، قد يبدو ذلك ضرباً من المبالغات للوهلة الأولى، غير أنها الحقيقة التاريخية، ويالها من حقيقةٍ جديرةٍ بالتسجيل والتأمل.
دعونا نرجع بالزمن حوالَى خمسة وثمانين عاماً، لنتعرف على شخصيةٍ فذّة، لعبت دور البطولة فى وقائع اقتناء "جمعية محبى الفنون الجميلة" عرش "محمد علي"، لِيُعرَضَ لأكثر من عشر سنوات فى واحدٍ من متاحف مصر الشهيرة، كان تابعاً لإدارة الجمعية آنذاك، وهو "متحف الشمع المصري". كان ذلك الفَذّ هو "فؤاد عبد الملك" (1878 – 1954)، سكرتير الجمعية منذ تأسيسها إلى وفاته، وهو عبقرى مَنسِيٌّ، أسدى للفن المصرى خدمات جليلة، كان من بينها تأسيس هذا المتحف، الذى ظل لسنوات يطاول أشهر متاحف الشمع فى العالم، قبل أن يَؤولَ حالُه إلى ما هو عليه الآن.
كان "فؤاد عبد الملك" رجُلاً فَذّاً طَموحاً؛ إذ كان من أوائل المستثمرين فى صناعات منتجات الألبان، وصناعة الأثاث الفاخر، كما كان فناناً يجيد الرسم والتصوير الفوتوغرافي، ورحّالة جابَ أقطار الأرض شرقاً وغرباً. وفى عام 1919عاد من جولةٍ له بأروبا، وأسس داراً للفنون والصنائع، ودعا إلى تنظيم معرض بمقر مؤسسته تحت رعاية السيدة "هدى شعراوي"، اشترك فيه الفنانون الرواد: "محمود مختار" و"محمد حسن"، و"راغب عياد"، و"يوسف كامل"، و"محمود سعيد"، و"محمد ناجي"، وغيرهم من طليعة فنانينا الأوائل. وقد شهد هذا المعرض نجاحاً عظيماً، وكان مِن أبرز من اقتنوا بعض أعماله: الأمير "يوسف كمال"، والزعيم "سعد زغلول"، و"حسين رشدي" باشا، و"عدلى يكن" باشا.
ولبراعته الفائقة فى تنسيق المعارض بأنواعها، عَهِدت إليه دولٌ غربية، منها فرنسا وروسيا وإنجلترا، بتنظيم بعض معارضها الصناعية، وهو ما دفع بـ"الجمعية الزراعية الملكية" المصرية بِدَورِها لأن تعهَد إليه عام 1926 بتنظيم أجنحتها السنوية فى "المعرض الزراعى الصناعى الدولي" بالقاهرة، الذى كان مَقصِداً لدول العالم فى عصرِه الذهبي. وبفضل هذه البراعة ذاتها، نال "فؤاد عبد الملك" "وسام جوقة الشرف" (الليجيون دونير) Légion d'Honneur من الحكومة الفرنسية؛ تقديراً لاضطلاعه بتنظيم معرضٍ للفن الفرنسي، فى قاعات "جمعية محبى الفنون الجميلة"، بلغ مجموع قيمة معروضاته مليونَى جنيه بتقدير عام 1928.
وفى صيف 1934، أنشأ "فؤاد عبد الملك" متحف الشمع، الذى سُمّى عند بداية إنشائه باسم "المتحف التاريخى المصري"، وكان يحتل عند إنشائه قصر "تيجران" بشارع "إبراهيم باشا" – وهو نفسُه القصر الذى سبق وأن استضاف أولى مجموعات "متحف الفن المصرى الحديث" منذ عام 1927 - ثم انتقل "متحف الشمع" فى 1937 إلى مقرٍ بشارع "القصر العيني"، قبل أن يُهدَم هذا المقر فتُنقَل محتويات المتحف إلى حلوان بمقره الحالي، الذى افتُتِح فى 6 أغسطس 1955، بعد رحيل مؤسِّسِه بعامٍ تقريباً.
وتبدأ أولى الإشارات إلى وجود "عرش محمد علي" ضِمن مقتنيات "جمعية محبى الفنون الجميلة" عام 1936، أى بعد تأسيس "متحف الشمع" بحوالى عامَين؛ وهى إشارة ورَدَت فى سياق احتفاء الصُحُف والمجلات المصرية بهذا المتحف الجديد الفريد آنذاك.
ومن بين الصُحُف والمجلات المشار إليها، نتوقف عند مجلة "المصور"، فى عددها الصادر بتاريخ 4 سبتمبر من عام 1936؛ إذ تُطالعُنا فى صفحتها الخامسة والعشرين صورةٌ فوتوغرافية، مصاحِبة لتحقيقٍ قصير بعنوان "جولة فى متحف الشمع". وتتضمن الصورة مشهداً بدا فيه تمثال "محمد علي" الشمعي، جالساً على كرسى عرشه المُذَهَّب، وقد وقف أمامه تمثال ابنه الفاتح "إبراهيم باشا". وإذا بالتعليق المكتوب أسفل الصورة، يوضح لنا أن كرسى العرش البادى فى المشهد هو بنفسه عرش "محمد علي" الأصلي، وأنه صار من مقتنيات "جمعية محبى الفنون الجميلة"؛ إذ نقرأ فى التعليق ما نَصّه: "وهذا العرش الذى يجلس عليه محمد على من الخشب المُذَهَّب، وقد اشترته إدارة متحف جمعية الفنون الجميلة من مخلفات سراى شبرا، التى كان يسكنها محمد على فى حياته".
وكما يمكن أن نستخلِص من المقال، فقد بادَر "فؤاد عبد الملك" – بما هو متأصِّلٌ فى شخصيته من حنكة ومبادرة لاقتناص الفُرَص – إلى شراء العرش من المزاد المذكور، ليُعرَضَ بِوَصفِه أقيَمَ محتويات متحفِه الجديد، فى مقر سراى "جمعية محبى الفنون الجميلة" بقصر "تيجران".
ثم تأتى الإشارة الثانية بعد حوالى أحد عشر عاماً من تاريخ المقال المذكور، لتُضيفَ مزيداً من التفاصيل إلى تطورات هذه الواقعة الفريدة، ولنعلم من خلالها كيف انتبه الملك "فاروق" إلى وجود عرش جده الأكبر بحوزة "فؤاد عبد الملك"، الذى كان يعتَزِم بيعَ العرش آنذاك، ليتخذ "فاروق" بدورِه قراراً فاصلاً فى هذا الشأن. ففى عددها رقم 1178، الصادر بتاريخ 25 إبريل 1947، وفى صفحتها الخامسة عشرة، تعودُ مجلة "المصور" لمناقشة الواقعة، فى سياق مقالٍ بعنوان "لكلٍ من هذه التحف قصة".
وفى هذا المقال، نطالع تفاصيل سعى "فاروق" لاستعادة مقتنيات أجداده، وترميمها وحفظها فى "قصر الطاهرة" بالقاهرة، لِنَعلَم أن من بين هذه المقتنيات بلياردو، كان قد أهداه "لويس فيليب الأول" ملك فرنسا إلى "محمد علي"، وبيانو من مقتنيات "الخديو إسماعيل"، وأوانٍ فضية من مقتنيات الملك "فؤاد"، وتمثال حديث يجسد شخصية الملكة الآشورية الشهيرة "سميراميس"، كان "إسماعيل" قد أوصى بصُنعِه فى فرنسا، فنقله "فاروق" لاستراحته فى الهرم. ثم نأتى إلى بيت القصيد فى الموضوع؛ حين نقرأ فى المقال ما نَصّه: "ولكن مما لا ريب فيه أن أعظم تلك المخلفات شأناً هو عرش محمد على باشا الكبير، فقد علم جلالة الفاروق يوماً أن هذا العرش موجود عند أحد الأفراد، وأنه يروم بيعَه – وكان هذا قد اشتراه من سنوات طويلة من مزاد عمومى – فابتاعه جلالته منه ورمَّمَه، فاسترد رونقه ونضارته، وهو اليوم فى قصر الطاهرة، يبدو كما كان عليه فى عهد مُنشئ عرش مصر ومؤسس نهضتها الحديثة، وكأنما شاء الزمان أن يكون الفاروق هو الذى يعيد إلى هذا العرش بهجتَه...". وفى أسفل الصورة المصاحبة للمقال، نقرأ تعليقاً نَصُّه: "ليس يدرى أحدٌ كيف انتقل عرش محمد على إلى ملكية أحد الأفراد، ولا كيف بيع فى مزاد عام؟! على كل حال فقد استرده الفاروق ورممه ورَدَّ إليه نضارته".
غير أن قصة عرش "محمد علي" لم تَنتَه باستعادة "فاروق" إيّاه، ونقله إلى "قصر الطاهرة"؛ إذ بعد قيام ثورة يوليو، وتقويض حُكم أسرة "محمد علي"، عاد هذا العرش إلى الأضواء بقوة، بعد مرور حوالى سبعة عشر عاماً على نشر الموضوع السابق؛ وذلك بسبب صورة، كان الملاكم العالمى "محمد على كلاي" قد حرص على أن تُلتَقَط له، وهو جالسٌ على هذا العرش، فى التاسع من يونيو عام 1964، خلال زيارةٍ له إلى مصر.
كان العرش قد انتقل آنذاك من "قصر الطاهرة" إلى "قصر الجوهرة" بالقلعة، حيث التقط "كلاي" صورته الشهيرة عليه، خلال جولةٍ سياحية له داخل "قصر الجوهرة" وقلعة "صلاح الدين". وقد لَقِيَت هذه الصورة رواجاً ساحقاً آنذاك، وتداولتها معظم الصحف والمجلات الأوربية، مصحوبة بتعليقات وتحقيقات، نتبين منها مدى إعجاب الملاكم الأسطورى بِسَمِيّه التاريخي، واقتدائه به فى بعض خصاله الشخصية.
وإلى الآن، يستطيع زائر "قصر الجوهرة" أن يرى هذا العرش، ماثلاً فى قمة الدَرَج المؤدى إلى الطابق العلوي، بعد ترحاله ما بين "قصر شبرا"، و"متحف الشمع"، و"قصر الطاهرة"، ليستقر أخيراً فى موضعه الحالى منذ حوالى سبعين عاماً.
قد يجوز لنا أن نندهش، فيما لو كانت هذه الواقعة قد ارتبَطَت بجمعية فنية عادية، غير أن الأمر يختلف مع "جمعية محبى الفنون الجميلة"، التى كانت افتتاحاتُ مَعارضِها تجرى فى يومٍ من الأيام على نَسَق حفلات الاستقبال المَلَكية الكبرى؛ وربما يكفينا لبَيان ذلك أن نستَرجِع نَصّاً بليغاً دالّاً، ساقه الناقد المؤرخ الفنى "محمد صدقى الجباخنجي"، فى كتابه "تاريخ الحركة الفنية فى مصر إلى عام 1945"، واصفاً من خلاله حال الجمعية فى سالف عهدها الذهبي؛ وذلك حين يقول: "وفيما أذكره جيداً أنى كنت شديد الحرص على حجز مكان لى على الرصيف المواجه لمدخل القصر، حتى لا يفوتنى مع المنتظرين مشاهدة الاحتفال بافتتاح المعرض السنوي، وكنا نرى على سلم القصر جمعاً يضم رئيس الوزراء، ورئيس مجلس النواب والشيوخ، ورجال السلك السياسي، و"لويد جورج" المندوب السامى البريطاني، وعندما يدخل الفرسان المتقدمون العربة الملكية تعزف موسيقى الحرس السلام الملكي، ويهبط الملك من العربة، ويهرع رئيس الجمعية وأعضاء مجلس إدارتها وباقى المدعوين إلى استقباله، وكان مشهدهم بملابسهم السوداء والطرابيش الحمراء، وقد فُرِشَت أرض الحديقة بالرمال الصفراء الناعمة، إلى جانب أزياء الحرس المزركشة وملابسهم الملونة من المناظر المثيرة، وعيون الشعب شاخصة وهم يسألون عن الخَطْب"!.
وعلى هذا المستوى، اعتادت "جمعية محبى الفنون الجميلة" أن تُحالِفَ المجد، لتبلغ مِن قِمَمِه ما مَكَّنها فى يومٍ من الأيام من امتلاك عرش "محمد علي" الكبير!.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة