بداية لابد أن أوضح أن "الشطار والعيارين" هم طائفة من أهل النهب، كانوا يمتازون بملابس خاصة بهم، وكانوا لا يعدون النهب جريمة يعاقب عليه القانون، وإنما يعدونها صناعة ويحللونها باعتبار أن ما يستولون عليه من أموال التجار الأغنياء زكاة تلك الأموال التى أُوصى بإعطائها للفقراء، وكانوا إذا كبر أحدهم تاب فتستخدمه الحكومة فى مساعدتها على كشف السرقات، وكان فى خدمة الدولة العباسية جماعة من هؤلاء الشيوخ يقال لهم "التوابون" على أنهم كثيراً ما كانوا يقاسمون النهابين ما يستولون عليه ويكتمون أمرهم.
ظهر العيارون فى بغداد فى أواخر القرن الثانى للهجرة، وكان ضالعين فى الفتنة بين الأمين والمأمون"، لأن الأمين لما حوصر فى تلك المدينة وعجز جنده عن الدفاع استنجد بالعيارين، وكانوا يقاتلون عراة فى أوساطهم، تماما كما يقاتلون مع ظهورهم مؤخرا فى بلاط صاحبة فى سبيل مصالحهم الخاصة، كما اتضح لى من ردود أفعال واسعة وردت لى فى أعقاب المقالين السابقين، وجميعها تؤكد أن قطاعا كبيرا من الصامتين على أفعال "الشطار والعيارين" ممن يعيثون فسادا فى بلاط صاحبة الجلالة لديهم رغبة ملحة فى ضرورة كشف الغطاء عن ذلك الزيف الذى يزلزل جدران المؤسسات القومية، ويعترى مهنة من أقدس المهن على وجه البسيطة.
قبل الخوض فى التفاصيل لابد لى أن أشكر "اليوم السابع" الذى أتاح لى الفرصة كى أعرض أفكارى وملاحظاتى ووجهات نظرى فى أوضاع المهنة التى تغتال كل صباح عبر المؤسسات القومية التى تئن بالشكوى جراء تصرفات كتيبة تندرج تحت ما يسمى بـ "الجهل الواعى” الذى ينجم عنه الشر بالضرورة، بعد أن كانت تلك المؤسسات ذاتها يوما بمثابة حائط الصد الأول والأخير الذى يدافع عن الدولة من ناحية، وبنفس القدر يقف سندا وعونا للجمهور من ناحية أخرى - وقت أن كانت صحافتنا القومية هى لسان حال المواطن والوطن فى أن واحد - تحمل همومه وأحزانه فى طى صفحاتها، وتعبر عن مختلف قضاياه الإنسانية باحترافية عبر قوالب كتابية توصف بالمصداقية وتستند إلى الضمير الصحفى الحى الذى يعى الحقوق ويعرف الواجبات تجاه وطنه ومواطنيه.
لكن عندما غاب الضمير الصحفى الحى، بالإضافة إلى اجتياح رهيب من جانب "الشطار والعيارين" من فئة الصحفيين الذين يفتقدون قواعد العمل المهنى، كانت النتائج السلبية فى مجتمع يسوده التخلف والفساد والجهل والتسيب والذاتية والنفعية والقبلية واللاموضوعية واللاقيم واللامساواة بين الأفراد والاستهتار بالحقوق، فكما يقول مالك بن نبى: "الجهل فى حقيقته وثنية لأنه لا يغرس أفكارا، بل ينصب أصناما"، ومن ثم كان نصيب الصحفى المهنى المجتهد الإقصاء إلى خانة المنبوذين، أو ينفى فى طابور المطرودين من جنة "الشطار والعيارين"، بعد أن اعتلوا المناصب القيادية بالفهلوة، وكانت النتيجة الحتمية أن أوقعونا بين مطرقة تراجع توزيع الطبعات الورقية وسندان شبكات اجتماعية أشبه بـ"حصان أسود" يزحف يوميًا على أراضٍ جديدة، ويفرض قواعده الاستثنائية، لتجد الصحف نفسها أمام مأزق كبير، فبعضها يتوقف عن الصدور، وبعضها الآخر يخلع " ثوب الورق " وينطلق بقوة نحو الديجتال، وآخرون يسعون بجدية لابتكار حلولهم الخاصة لضبط الإيقاع بين الاثنين والحفاظ على حصد العوائد المالية منهما.
الخطورة تكمن فى تقرير معهد "رويترز" السنوى بشأن توقعاته لصناعة الديجتال، حين تحدث عن تزايد المخاوف فى 2017 عن أثر التطورات التكنولوجية على جودة المعلومات ودعم السياسات الديمقراطية، وكيف ساهمت انتخابات الولايات المتحدة وفرنسا فى تسليط الضوء على قوة اكتسبتها وسائل الاتصال الجديدة، فى حين يستمر نزيف فقدان التأثير والخسائر المالية لدى وسائل الإعلام التقليدية، وكشفت دراسة أخرى لمعهد "رويترز"، شملت 26 دولة، أن 50% من الجمهور يعتمدون على الشبكات الاجتماعية كمصدر أساسى لمعرفة الأخبار بشكل أسبوعى، و53% يستخدمون الموبايل للحصول عليها، ومثلها دراسة لمؤسسة " Golin " الأمريكية للعلاقات العامة ودراسات الجمهور، أجرتها فى 13 دولة واستمرت 3 سنوات، توصلت إلى أن "السوشيال ميديا" تتصدر قائمة تفضيلات القراء فى الحصول على المعلومات، يليها التليفزيون، وشفويا من خلال الأصدقاء والعائلة، بعدهم الصحف المطبوعة، ثم المواقع الإخبارية.
ورغم أن هذه الأرقام والمؤشرات تعطى صورة مقلقة عامة لحال صناعة الصحافة والمنافسين، وسط سوق متأرجحة مازالت تبحث عن "نموذج عمل" يمكنه تجاوز العقبات الحالية، فإن الصحافة القومية فى مصر تعيش أسوأ فتراتها لأسباب يتعلق بعضها بسوء اختيار القيادات التحريرية والإدارية، واستمرار نزيف الخسائر وتراكم الديون وتأخر المستحقات المالية للصحافيين، وهو الأمر الذى أدى بالضرورة إلى أن ضاقت الحكومة المصرية ذرعا بأخطاء المؤسسات الصحافية، بعد فشل قيادتها فى تحقيق أى تقدم يذكر، وانشغالها بأمور بعيدة عن الإصلاح والتطوير، ويجرى الحديث حاليا عن ترتيبات واسعة لتغيير هذه القيادات وانتشال المؤسسات من غرقها المادى والمهنى.
هذا ما كشفه لى مصدر رفيع فى معرض حديثة تعقيبا على مقال الأسبوع "كتائب الدمار الشامل فى الصحافة المصرية"،أن هناك ترتيبات حالية يتم بمقتضاها اعتدال المشهد الإعلامى، وهى تتضمن تغييرات كبيرة، تشمل رئيس الهيئة الوطنية للإعلام، ورئيس الهيئة الوطنية للصحافة، وهى الجهة المعنية بشؤون الصحافة القومية، ورئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، بعدما أخفق الجميع فى إصلاح وتطوير منظومة الصحافة والإعلام، واستمرار الأوضاع المتردية داخل المؤسسات، علاوة على أن عددا كبيرا من رؤساء تحرير وإدارات المؤسسات فى الصحف القومية سيتم الاستغناء عنهم لأسباب تتعلق بفشلهم فى الإدارة وعدم تحقيق مكاسب، فضلا عن انشغالهم ليل نهار بأمور بعيدة كل البعد عن الإصلاح والتطوير فى سبيل تحقيق مصالح خاصة.
ولاشك أن المنافسة الحادة بين وسائل الإعلام هى التى فرضت على الحكومة التفكير فى حلول غير تقليدية لإعادة الاعتبار للإعلام المصرى عموما، وفى هذا الصدد أوضح لى نفس"المصدر الرفيع" إنه كانت النية أن يتم البدء أولا بترتيب أوضاع الفضائيات والإذاعات التى تشارك أجهزة حكومية فى حصتها، لكن الأخطاء الكارثية التى وقعت فى المؤسسات الصحافية القومية منها على وجه الخصوص، دفعت إلى العمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه فى تلك الصحف الغارقة فى الجهل والعشوائية، بعدما أصبحت مادة خصبة للسخرية من النظام والجمهور معا، واستغلت منابر الإخوان وأنصارهم، الأخطاء المهنية فى بعض الصحف القومية بفرط من عدم المهنية والاحترافية باستخدامها كدعاية سلبية للرئيس عبدالفتاح السيسى.
ويأتى التدخل الحكومى لانتشال المؤسسات الصحافية من دوامة الانهيار، متزامنا مع موافقة مجلس النواب أخيرا على قانون الصحافة الجديد، الذى واجهه أصحاب المصالح الخاصة برفض واسع بدعوى أنه يسمح للجهات الإعلامية الحكومية بالتدخل بشكل فج فى كل ما يتعلق بالنواحى المهنية والإدارية والمالية بالصحف، ويسمح لها بدمج أو إلغاء إصدارات أو مؤسسات صحافية.
لكن خوفا ما يعترى الصحفيون الآن، أن يكون الترهل الإدارى والتردى المهنى الذى تعانيه الموسسات القومية مقدمة لتصفية أو خصخصة المؤسسات الصحفية القومية، بذريعة تقليل الخسائر وتصحيح المسار، فى ظل مناقشة مجلس النواب مقترحا برلمانيا بأن تكون ملكية الصحف القومية بين الدولة والموظفين بها، وربما كان إعلان "عبدالمحسن سلامة" رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام عن وجود نية لطرح 25% من المؤسسة فى البورصة قريبا سببا فى زيادة تلك المخاوف.
ظنى أن الحكومة لن تتخلى عن الصحافة القومية تحت أى ظرف، لأنها الوحيدة القادرة على إحداث التوازن فى الإعلام المصرى، كما أنها لا تأمن نظيرتها الخاصة، حتى وإن كان أكثرها يتحدث بلسانها، فهى تبحث فى النهاية عن مصالح أصحابها ومؤسسيها وغالبيتهم من رجال الأعمال، وربما يمثل ملف الإعلام الرسمى صداعا للحكومة، خاصة أنه لم يعد صاحب ريادة مثل الماضى، وقارب على الاختفاء من المشهد، وربما تراجع دوره التأثيرى فى الشارع كان هو السبب الرئيسى لكل ذلك، الأمر الذى وضع الحكومة فى مأزق البحث عن منابر إعلامية تستطيع من خلالها مخاطبة الناس، فى ظل تصدير معضلة كبيرة - أراها مفتعلة من جانب بعض القيادات الصحفية الحالية الخائفة على مناصبها - فى المؤسسات الصحافية، تتعلق بغياب الكوادر القادرة على إصلاحها وانتشالها من دوامة الغرق فى الفوضى وتقليل حجم الخسائر، سواء فى الإدارة أو التحرير.
صحيح أن الصحافة القومية أصبحت نمطية، ويتعمد بعض المسؤولين فيها دفن الكفاءات حتى لا تظهر فى الصورة وتهدد مناصبهم ومصالحهم التى أصبحت تدار فى العلن - حتى لو أتى ذلك على حساب الصحف التى يترأسونها -ومن هنا فقد تراجع دورها وتأثيرها أمام هذه المعادلة، لكن تبقى نظرة الحكومة للصحافة القومية على أنها المنبر الإعلامى المعتدل الذى يمكن من خلاله مخاطبة المجتمع وتوصيل رسائل للداخل والخارج بشكل دبلوماسى، بعدما وجدت أن الإعلام الخاص يقوم بذات المهمة على أكمل وجه دون فواتير مالية ومنغصات مهنية وإدارية، وذلك على الرغم من تكليفها "مركز المعلومات واتخاذ القرار بمجلس الوزراء" بالرد على الشائعات عبر الاتصال بالمسئولين ونشر الحقائق فى مواقع التواصل أو وسائل الاعلام الخارجى بعد استشعار الخطر، وعدم قيام وسائل الإعلام بدورها فى التصدى لتلك الشائعات.
ولقد بدا ذلك من تعامل الرئيس السيسى مع الصحافة الحكومية خلال الفترة الأخيرة، حيث كان يداوم على أن يختصها وحدها فى مخاطبة الرأى العام الداخلى والخارجى ويتحاور لساعات مع رؤساء تحريرها على فترات، لكن ذلك لم يحدث منذ اختيار رؤساء تحرير وإدارات الصحف الحاليين فى مايو من العام الماضى، ويرى مراقبون أن عزوف الرئيس عبد الفتاح السيسى عن توصيل رسائله من خلال الصحافة الحكومية، يعكس تراجع ثقته فى مكانتها وقيمتها كمنابر إعلامية تحظى بقبول وثقل وتأثير لدى المجتمع المحلى والدولى، واعتبر هؤلاءأن علاقة الرئيس بالصحافة القومية تكاد تكون وصلت إلى حد القطيعة بعكس فترته الرئاسية الأولى، وهو ما يوحى باندثار تلك المكانة المميزة التى كان يحتلها الخطاب السياسى على صفحاتها مؤخرا.
وبعد كل ماضى أصبح لا بديل عن اختيار قيادات إدارية وتحريرية تتمتع بدرجة عالية من الكفاءة وليس أهل الثقة ممنيرجحون كفة "الشطار والعيارين"،لأن عكس ذلك يضاعف من أزمات الإعلام القومى، ففى ظل المنافسة الحادة بين وسائل الإعلام، أصبح فرض عين على القيادة السياسية والحكومة معا التفكير فى حلول غير تقليدية لإعادة الاعتبار للصحافة المصرية، لأن استمرار الاعتماد على أهل الثقة سيؤدى بنا إلى استمرار الإخفاقات الحالية، وحدوث حالة من الاحتقان التى تؤدى إلى ضياع مؤسساتنا القومية.. آخر حائط صد فى عضد الدولة والشعب.. والله المستعان!.
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد السيد مدير تحرير الهلال
مقال محترم وموقع نفتخر به لنشر هذا المقال
مقال محترم وجميل وكل جملة تستحق التقدير ونتمني الاستمرار