عباس شومان

استحضار المسؤولية من إتقان العمل!

الخميس، 20 سبتمبر 2018 06:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا يشك عاقل فى أن الشعوب على اختلافها تسعى نحو التقدم والتحضر، وأن الأمم تبذل فى سبيل ذلك الغالى والنفيس، ولا شك أيضا أن هناك عوامل تساعد الدول والشعوب والأمم على تحقيق نهضتها، وفى المقابل هناك عوامل أخر تعوّق حركة الشعوب والأمم وسعيها لتحقيق الريادة والحضارة.
 
ومن وجهة نظرى، فإن من أهم العوامل التى قد تكون معوقا ودافعا فى الوقت نفسه، استشعار المسؤولية، فمتى غابت المسؤولية عن العاملين كانت وبالا على المجتمع، ومتى تحقق بها العاملون رجعت على العمال والصناع والزراع وكل الفئات بالخير الوفير.
 
والمتأمل لتاريخ أسلافنا وما خلفوه من نهضة حضارية وتقدم علمى وعملى أبهر الدنيا يدرك، بلا أدنى شك، أن كل ذلك ما تحقق إلا لأنهم أدركوا قيمة العمل واستشعروا المسؤولية تجاهه، ولم لا؟! وقد حرصت شريعتنا الإسلامية الغراء على غرس قيمة العمل وأهميته فى نفوس أتباعها، وذلك لما له من أثر فعال فى حياة الأفراد والمجتمعات والأمم، فالعمل مفتاح بناء الحضارات وأساس نهضتها ورقيها، لذا جاء الأمر بالعمل والحث على ضرورة السعى فى مواضع كثيرة سواء فى القرآن الكريم أو السنة النبوية المطهرة، قال تعالى: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ»، وقال جل شأنه: «يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا»، وقال أيضًا: «هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ»، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما أكل أحد طعامًا خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبى الله داود كان يأكل من عمل يده».
 
ولم يقتصر الإسلام على غرس قيمة العمل فى نفوس أتباعه فقط بل أمرهم بضرورة إتقانه؛ فالإتقان وجودة الصنع آثار ناطقة فى خلق الله سبحانه، قال تعالى: «صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ»، وهو ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه»، وإتقان العمل هو تأديته على الوجه الأكمل الذى أريد له من قِبل طالبه، سواء فى مجال العبادات لله- تعالى- من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج...، أو فى عمل وظيفى يتقاضى عليه الموظف راتبًا آخر كل شهر، أو فى غيره من أعمال يتقاضى فيها العامل أجره بعد فراغه منها، فإذا أتقن العامل عمله أُجِر عليه من ربه إن كان عبادة خالصة، وإن كان عملًا بشريًّا استحق أجره عليه، وكما أمر الإسلام بضرورة إتقان العمل فقد حرّم هضم حق العامل وعدم إعطائه أجره، أو مماطلته وتأخيره عن وقت استحقاقه؛ قال صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى فى الحديث القدسي: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بى ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره»، وقال صلى الله عليه وسلم: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه» وفى رواية: «حقه».
 
ولو أن أرباب الأعمال استحضروا هذه النصوص خاصة النص الأخير، ولو أنهم كانوا يخافون عقاب الله- عز وجل- لما رأينا هذا الكم من النزاعات بين أرباب الأعمال والعمال فى أقسام الشرطة والمحاكم، وإذا كان استحقاق الأجر للعامل قد أخذ هذه الضمانات فى شريعتنا فإن العامل إن تقاضى أجرًا على عمل لم يقم به على وجهه الأكمل عُدّ ذلك فى الإسلام لونًا من ألوان أكل أموال الناس بالباطل، يستوجب المحاسبة عليه فى الآخرة، فضلًا عن عدم البركة فيه فى الدنيا، والإضرار بنفسه وعياله بإنفاق المال الحرام.
 
ولما كان إتقان العمل مطلوبًا على سبيل الإلزام شرعًا فإن استحضار المسؤولية والرقابة الذاتية للوفاء بها وإبراء الذمة خوفًا من تبعة التفريط فيها هو خير ضمانة لإتقان العمل، وهذا ما ينبغى للعامل أن يلتزمه ويقدمه على الرقابة البشرية من قبل الجهات المعنية ورؤسائه فى العمل إن كان موظفًا حكوميًّا أو من قبل ربِّ العمل فى القطاع الخاص أو المستأجِر له إجارة مشتركة أو خاصة، فالموظف المجتهد حقًّا يعلم تمام العلم أن إتقان عمله أمانة معلقة فى رقبته وأنه ليس فى حاجة إلى رقابة بشرية إلا تلك التى تنبع من داخله، لعلمه بحقوقه وواجباته واطلاع خالقه على عمله، فعامل المجزر - مثلا - الذى يذبح فى اليوم الواحد آلافًا مؤلفة من الطيور أو الحيوانات إذا استحضر أن إهماله فى عمله وإخلاله بشروط الذبح يحمله إثم ملايين البشر الذين اعتمدوا عليه ووثقوا فى وفائه بمتطلبات عمله حين اشتروا منتجه على أنه قد ذُبح وفق شريعتهم، رغم أن إهماله وعدم مسؤوليته قد ترتب عليهما موت الحيوان أو الطائر، وبالتالى عدم حلّ أكله، ويشاركه فى هذا الاثم مَن يراقبه فى عمله والجهة التى تراقب جودة منتجه وتتأكد من سلامته، فضلًا عن أخذه الأجر على هذا العمل سحتًا، فلو استحضر هذا العامل أو غيره تلك الأمور وغيرها لكان حريصًا على الوفاء بمتطلبات عمله أو وظيفته، واستشعار هذه المسؤولية ومساعدة الجهات وأرباب الأعمال على قيام أصحابها بها لا تقتصر على مَن تقتضى أعمالهم درجة عالية من التركيز البصرى أو الذهنى، ولكنها مطلوبة من كل مكلّف بعمل صغيرًا كان أو كبيرًا. 
 
 وإذا كان إتقان العمل مسؤولية العامل فإن على الجهة أو المؤسسة التى يعمل بها هذا الموظف أو العامل مسؤولية لا تقل أهمية عن تلك التى تقع على المكلَّف بالعمل، تبدأ باختيار مَن تتوافر فيه الكفاءة المطلوبة للقيام بمهام هذا العمل دون مجاملة أو استجابة لوساطة وجيه أو صديق، مرورًا بالتفكير فى وضع آليات عمل تساعد المكلَّفين بالأعمال التى تحتاج إلى تركيز دقيق على إنجاز أعمالهم، تفاديًا للإهمال أولًا والوقوع فى الخطأ ثانيًا، وقد أعجبنى ما رأيته فى إحدى الدول من أن العامل يتناوب معه زميل له فى العمل، إذ يعمل ساعة ويستريح مثلها، فيستمر العمل دون توقف مع وجود القدرة الكافية على التركيز والإتقان، وفى بعض الأعمال الشاقة التى تحتاج إلى تركيز أكبر يتناوب العمال على العمل فى أوقات قد تكون أقل من ساعة، وكذا عدم التغاضى من قبل رئيس العمل عن إهمال العامل وعدم محاسبته بذريعة الرأفة به، والفصل بين الرأى الشخصى فى الموظف أو العامل عند إثابته أو عقابه، كما يجب على المؤسسات الدينية، إسلامية ومسيحية، أن تتكاتف وتتضافر جهودها لنشر الوعى بضرورة إتقان العمل وتصحيح ما توارثته الأجيال من ثقافات مغلوطة تجاه العمل الحكومى من أنه مدعاة للراحة والكسل والتقصير، عن طريق تكثيف الإعلانات التليفزيونية والأحاديث الإذاعية والحملات التوعوية والزيارات الميدانية إلى المصانع والمصالح الحكومية المختلفة، إحياء للضمير واستعادة لمكانتنا الغابرة.
 
 









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة