"الفلاحون آلات مأجورة لا يترك لهم للمعاش إلا ما يقيهم الموت وما يحصدونه من أرز وحنطة يذهب إلى موائد أسيادهم ويحتفظون بالذرة لكى يصنعون منها خبزا''، هكذا وصف حالهم الكاتب ''فولنى'' فى كتابه ''الرحالة'' واصفا حياتهم أثناء عصر الدولة العثمانية والمماليك أنهم ليسوا إلا عاملين بأرضهم يزرعون وغيرهم يحصد ثمار جهدهم، وكان نظام الالتزام فى عصر الدولة العثمانية يحتم على الفلاحين حق الانتفاع فقط من أرضه وليس له الحق فى بيعها أو الشراء، يحصد من المحاصيل ما يكفى لقوت يومه فقط والباقى تحصده الدولة من ضرائب جميعها تجمع لصالح السلطان وحاشيته.
وفى يوم 23 يوليو لعام1952 م تحولت حياة كل المصريين خاصة الفلاح، فى ثورة كانت من أهم أهدافها ''العدالة الاجتماعية'' التى أكد عليها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، عندما قضى على النظام الإقطاعى بعد الثورة، بإصدار قانون الاصلاح الزراعى، والذى قسم الأراضى على جميع الفلاحين المصريين، ليكون الفلاح المصرى مالكا لأرضه لأول مرة فى التاريخ بدون شريك، وقرر عبد الناصر فى 9 سبتمبر 1952 توزيع الأراضى على الفلاحين بعد الثورة، واعتبار ذلك اليوم عيداً لهم تكريما لإنسانيتهم وكرامتهم.
ومع ذلك ورغم مرور 66 عاما على هذا التحول التاريخى فى حياة الفلاح المصرى ماتزال معاناته تتواصل عبر آلاف السنين، وتتمثل تلك المعاناة تارة من اضطهاد الحكام، والشكوى من رخص أسعار المنتج الزراعى، وتجاهل الحكومات المتعاقبة لمطالبهم، وحتى فى الأعمال الدرامية لا يظهر الفلاح الحقيقى غالبا وإنما يظهر فلاح تخيلى ذى صورة نمطية يعيش فى رأس المؤلف وتفصله مسافات شاسعة عن الفلاح الحقيقى - بحسب الدكتور محمد المهدى أستاذ الطب النفسى - الذى يقول يخطئ من يظن أنك لكى ترى الفلاح فلابد أن تذهب إلى القرية، فالقرية وإن كانت هى الموطن الأصلى للفلاح إلا أنها أصبحت بيئة طاردة له إلى المدينة فى داخل مصر وخارجها، فأصبح الفلاح يظهر فى كل مكان وبكثافة يحمل معه كل موروثه القروى بعدما أضيف إليه من تعديلات أوتشوهات، وهذه الصورة لا تغرى أحدا بتأمله وإنما يكتفى بتسخيره "أو استخدامه" لأداء بعض المهام المطلوبة لساكنى المدن.
ويضيف المهدى: هناك مثل شعبى شديد القسوة يصور هذا الموقف بقوله: "الفلاح ريحته زفرة"، وقديما كان الباشا التركى المتعالى والمتغطرس يصف المصرى عموما بأنه "فلاح خرسيس"، حتى ولو كان ذلك المصرى زعيما شعبيا بحجم "أحمد عرابى"، وليس فقط الباشا التركى هو الذى يستخدم لفظ الفلاح بهذا الشكل السلبى وإنما اعتاد المصريون أنفسهم أن يستخدموه كأداة سب وتحقير فى حوارهم اليومى، ولم يظهر الفلاح فى صورة إيجابية حقيقية إلا فترة قصيرة فى بدايات ثورة يوليو وهو يسلم على الزعيم عبدالناصر ويتسلم منه عقد ملكية الأرض الجديدة التى اقتطعتها الثورة ممن أسمتهم إقطاعيين فى ذلك الوقت.
لقد كان الارتباط بالأرض قيمة، بل كان طين الأرض نفسه قيمة ورائحته قيمة، بحيث إن التفريط فى أى شىء من ذلك يساوى التفريط فى الشرف والكرامة، وكان الفلاح يأنف من بيع أرضه ويجده عيبا يستحق الخجل والتوارى من الناس، والآن لم تعد للأرض نفس القيمة والقدسية عند الفلاح المصرى فبيعها لم يعد عيبا كما كان, وهجرها وتجريفها وتبويرها والبناء فوقها أصبح شيئا مستحبا بل مرغوبا بشدة لديه، وربما يرجع ذلك لأن الأرض لم تعد تستر الفلاح أو تسد احتياجاته، بفعل السياسات الظالمة التى وقعت على كاهل هذا الإنسان البسيط.
ربما تفتت الملكية الزراعية مع توارثها جيل بعد جيل كان سببا جوهريا فى ذلك، فلم تتوسع رقعة الأرض لتواكب الزيادة السكانية الرهيبة التى نشهدها حاليا، ومن المعروف أن العائد الزراعى أبطأ وأقل من العائد الصناعى أو التجارى، ولكى تتوازى هذه العوائد أو حتى تقترب من بعضها لا بد من وجود مساحة أرض زراعية واسعة، وهذا مالم يحدث لأسباب كثيرة بالشكل المناسب والمتناسب مع أعداد الفلاحين، لذلك ارتبطت مهنة الفلاحة بالشقاء والفقر والحاجة والوضع الإجتماعى الأدنى، ولهذا وجدنا الفلاح يكره أن يورث مهنته لأبنائه لذلك يسعى بكل يملك لتعليمهم حتى يلتحقوا بوظائف حكومية أو غير حكومية أو صنعة من الصنائع تبعدهم عن مهنة الفلاحة والزراعة.
أصبح الفلاح المصرى بعد أن خذلته حكوماته المتعاقبة وجعلته ريشة فى مهب الريح لا يرضى لأحد أبنائه بالبقاء معه فى الأرض إلا مضطرا، وكأن الفلاحة أصبحت مهنة اضطرارية يلجأ إليها من فشل فى التعليم وفشل فى التجارة وفشل فى أن يتعلم صنعة معينة، وهكذا يتم تجريف هذه المهنة العظيمة من النابغين والنابهين، وذلك فى تواز تام مع تجريف التربة الزراعية التى كثيرا ما تفنن الفلاح المصرى فى ابتكار أساليب الرى التى أذهلت الأشجار نفسها على نفس هذا التراب المقدس عبر آلاف السنين.
النظرة إلى الفلاح أصبحت الآن نظرة دونية لا تشجع أحدا على أن يكون فلاحا، على الرغم من عظمة هذه المهنة وأهميتها، وعلى الرغم من قدم الزراعة والفلاحة فى مصر أكثر من أى بلد آخر، إلا أن تطور هذه المهنة قد توقف فى مصر، فما زالت هى هى نفس الأساليب المتبعة من أيام الفراعنة، وما زالت هى هى نفس الوسائل البدائية وقطع الأرض الصغيرة التى لا تتجاوز عدة أفدنة، بل قد تقاس بالقراريط فى كثير من الأحيان، وما زالت سلعة الفلاح تشترى بأسعار زهيدة، كل هذا يكمن وراء ضعف انتماء الفلاح المصرى لأرضه وضعف تمسكه بها , ورغبته فى هجرها.
قبل أربع سنوات من الآن، وانطلاقا من إدراكه العميق بقيمة الفلاح المصرى، وبحس إيمانى كامل لدى الرئيس "عبد الفتاح السيسى" بأن الودعاء الطيبون من أهلنا سيرثون تلك الأرض فى نهاية المدى، وباعتبارهم صناع أعظم حضارة على ضفاف النيل العظيم، كان قد صدق على "إنشاء نقابة موحدة للفلاحين" وأطلق منظومة التأمين الصحى على الفلاح وأسرته والزراعة التعاقدية، والتكافل الزراعى وقانون الصيد، وتوج ذلك بتسليم عقود تمليك لعدد من منتفعى الإصلاح الزراعى، إضافة إلى عرض موقف المعتثرين من الفلاحين ببنك التنمية والائتمان الزراعى.
ومنذ ذلك التاريخ أصبح الفلاح المصرى فى طى الكتمان ولم يتم الاحتفال بعيده طوال السنوات الثلاثة الماضية بعد أن أسقط عمدا من أجندة الحكومة، حتى إن أحوال الفلاحين لم تعد تدعو إلى التفاؤل، لأن الحكومات المتعاقبة فى الأربع سنوات الماضية لم تلتفت إلى أهمية تطوير الزراعة ودعم الفلاحين العمود الأساسى للمجتمع المصرى، الذى لايزال مجتمعاً زراعياً بالأساس، وهو ما أكدت عليه ثورة يوليو 1952 لتحقق طموحات وآمال حركة الوطنية المصرية بإصدار قانون الإصلاح الزراعى، والذى أحدث تغييراً جذرياً اجتماعياً فى مصر بإعادة هيكل الملكية الزراعية، وأدى لنمو الحركة التعاونية الزراعية وتعميق دورها فى خدمة الزراعة والفلاحين، وإقامة توازن نسبى بين الملاك والمستأجرين للأراضى الزراعية.
لقد آلمنى جدا أن يطالب النقيب العام للفلاحين "عماد أبو حسين"، بتدخل مؤسسة الرئاسة لدعم الفلاح أسوة بما يحدث فى مختلف دول العالم، وتحديث الزراعة من خلال تطبيق سياسات تحافظ على الموارد المائية وتطوير عملية الإنتاج والتسويق الزراعى ومستوى التعليم الزراعى، حيث أشار إلى أن الحكومة سببت "جرحا عميقا"، للفلاح لأنها لم تحتف به وتف بتعهداتها، من حيث الإعلان عن سعر المحاصيل قبل الزراعة، وأن تكون هذه الأسعار عادلة تغطى تكلفة الإنتاج، وتحقق هامش ربح مناسبا لتصبح الزراعة مهنة مربحة، مؤكدا على أهمية دور الحكومة فى مساعدة المزارعين فى إدخال الميكنة فى الحصاد والجنى، خاصة لمحصول القطن، لأن سعر تكلفة جنى الفدان تسببت فى عزوفهم عن زراعته، خاصة أن مصر كانت تزرع أكثر من 750 ألف فدان حتى عام 2000.
هنالك دراسة حديثة أضعها أمام الحكومة الحالية تشير إلى خطورة وضع الفلاح المصرى، وتؤكد على ضرورة فتح حوار مجتمعى لوضع استراتيجية وطنية حقيقية للنهوض بالقطاع الزراعى، ووضع حلول حقيقية لمشاكل الفلاحين والاستجابة لمطالبهم، بما يحقق الاكتفاء الذاتى للبلاد من المنتجات الزراعية الاستراتيجية، مثل القمح والأرز وقصب السكر، وغيرها من منتجات حيوية لسد الفجوة الغذائية التى نعانى منها حاليا، وحل مشكلات صغار الفلاحين مع فروع بنك التنمية والإصلاح الزراعى الذى يهدد آلاف الفلاحين بالحبس حتى اليوم، نتيجة للشروط التى وصفتها الدراسة بالمجحفة فى حق الفلاحين الراغبين فى الحصول على قروض وسلف زراعية.
وقال أحد الباحثين الذين أعدو تلك الدراسة إن للفلاح المصرى تاريخا ضاربا فى القدم وتاريخا طويلا مع فنون الزراعة والحرث، كما أن له تاريخا طويلا أيضا مع المعاناة يعود لعهود الفراعنة، فكما كان الفلاح فى العصر الفرعونى يتمتع برشاقة وخفة حركة وفيا لأرضه رغم مشقته، كان يغنى فى الحقل ويشارك فى مناسبة شم النسيم، وفى وفاء النيل.. فقد "عاش الفلاح المصرى معيشة ضنكاً، فأما من كان منهم مزارعاً حراً فلم يكن يخضع إلا للوسيط والجابى".
وعلى الرغم من كل ذلك التاريخ من "الضنك والسخرة والظلم" فإن ذلك لم يمنع الفلاح المصرى من أن يكون رائدا للزراعة فى العالم وقائدا لتقدم وطنه ومسيرة حضارته، وهذا الكلام يؤكده علماء المصريات بأن الحضارة المصرية القديمة قامت وازدهرت على الزراعة، وعبر التاريخ القديم والحديث ظلت الزراعة تفرض نفسها على مصر، تؤثر على اقتصادها وحضارتها وأسلوب الحياة فيها، وكما أسهمت الزراعة والفلاح فى صنع الحضارة المصرية فقد أسهمت الزراعة والفلاح فى صنع التاريخ، ذلك التاريخ التقدمى الذى صاحب تطور البشرية منذ فجر نشأتها، واقترن بالمدنية ليتفاعل معها ويؤثر فيها.
ولأجل كل ما مضى نناشد الرئيس "السيسى" بالتدخل لرفع المظالم عن الفلاح المصرى، ونذكره بأنه استقبل قبل 4 سنوات فى عيدهم أكثر من 1000 فلاح قابلوه بالتصفيق الحاد، لحظة دخول إلى قاعة المؤتمرات بمدينة نصر، وقاطع الحضور الرئيس 87 مرة لأسباب مختلفة، حيث عبر بعض الفلاحين عن حبهم للرئيس وتضامنهم معه فى مسيرة التنمية ومواجهة الإرهاب، بينما تحدث آخرون عن المشكلات التى تواجه الفلاحين ومنها "الأسمدة، والرى، وتسويق المحاصيل، وغياب الرقابة على توزيع مستلزمات الإنتاج الزراعى، والفساد، وتعدد النقابات التى تعبر عنهم".
وداعب "السيسى" الحضور فى بداية كلمته، حين قاطعه البعض لسرد المشاكل المختلفة، قائلا: "ماتستعجلوش على حل المشاكل، إنتو بترحبوا بيا بالطريقة دى، أنا جاى أقول لكم كل سنة وأنتم طيبينّ، وأنا عارف إن 70% من ريف مصر (رقيق الحال) ومش عايز أقول أكتر من كده.. والله العظيم لو أقدر أجيب حتة من السما هاجيب علشان خاطر البسطاء".
ويبقى أن نردد مع الرئيس قول الإمام محمد عبده - رحمه الله - عندما قال: "اللهم ارزقنى إيمان الفلاح البسيط، الذى يأكل من العشب، وينام على العشب، ويصلى على العشب، ويموت على العشب"، علها تكون سببا جديدا فى ارتباط الفلاح المصرى بأرضه وزرعه وضرعه، ليعيد الأحفاد سير الأجداد فى بناء حضارة جديدة على ضفاف النيل.