من فوق منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة فى دورتها الـ73، ألقى الرئيس السيسى قذائفه القوية فى وجه المجتمع الدولى ومنظماته العاملة فى كل الميادين، ومنها على وجه الخصوص مكافحة الإرهاب الدولى.. السيسى قال عبر رسائله المهمة للقاصى والدانى: أن الدول والحكومات قصرت وماتزال تقصر إلى اليوم فى ملفات مكافحة الإرهاب الأسود وتمويله، والقضايا الفلسطينية والسورية والليبية واليمنية.
لقد جاءت كلمة الرئيس السيسى أمام اجتماعات الأمم المتحدة بمثابة خارطة طريق واضحة المعالم لمواجهة الأزمات والمشكلات التى تواجه عددا من الدول، وبالتحديد داخل منطقة الشرق الأوسط وأيضا مواجهة ظاهرة "الإرهاب الأسود" التى باتت تمثل خطرًا كبيرًا على الأمن والسلم الدوليين، قائلا: إن المجتمع الدولى مُطالب بأن يعمل وبسرعة على تنفيذ رؤية مصر الواضحة والصريحة والحاسمة التى طرحها الرئيس فى كلمته وبخاصة فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب بصورة شاملة مؤكدا ضرورة أن يأخذ المجتمع الدولى بالرؤية الخاصة الأوضاع فى سوريا وليبيا واليمن.
عرض النسر المصرى القادم من الشرق محملا بهموم منطقته والعالم أجمع رؤيته لحل الأزمات والمشكلات بالحوار والطرق السلمية، ورفضه التدخل فى الشئون الداخلية للدول، مطالبًا بتنفيذ الرؤية لحل المشكلات والأزمات الدولية والاقليمية ومواجهة الأرهاب وإحلال السلام بين الفلسطينين والإسرائيليين، وذلك فى ضوء قرارات الشرعية الدولية ليحصل الفلسطينيون على حقوقهم المشروعة جمعاء وأهمها إقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وهذا وحده هو الذى سوف يضمن إحلال السلام بمنطقة الشرق الاوسط والعالم كله.
واتسم خطاب الرئيس التاريخى الذى تميز بالصراحة والوضوح حين وضع النقاط فوق الحروف أمام العالم وبين كيفية مواجهة الأزمات والمشكلات التى تواجه عدد من الدول خاصة بمنطقة الشرق الأوسط، موضحا أن مواجهة ظاهرة الإرهاب الأسود التى باتت تمثل خطرا كبيرا على الأمن والسلم الدولى، وهى تتطلب الآن وفى لحظة صدق بناء استراتيجية دولية لمكافحته والتعامل مع مموليه وداعميه، وقد عكس الخطاب مكانة مصر الإقليمية والدولية ووزنها التاريخى ودورها العظيم فى مكافحة الإرهاب والتصدى لجرائمه والقضاء عليه فى المنطقة، إذ تعرض الرئيس لإطلاق مصر للعملية الشاملة "سيناء 2018"، والتى تستهدف القضاء على الإرهاب ودحره نهائيًا.
وتضمنت كلمة الرئيس هموم وإشكاليات وطرح للحلول الموضوعية لما تشهده المنطقة العربية والقارة الأفريقية، وفند بروح المقاتل الجسور الأزمات التى تعانيها المنطقة العربية والأفريقية كاملة، وهذا يعكس مكانة مصر ودورها الريادى بصفتها "قلب الشرق" وفى القلب منه أفريقيا ولا تنقطع عنهما، وتدرك همومها وكافة أوجاعها التى تتطلب التدخل العاجل، وجدد دعوته لبناء منظومة دولية لمواجهة الإرهاب بإعتباره الخطر الداهم لتفتيت قوى الدول، مستعرضًا دور مصر القوى فى اقتلاع جذور الإرهاب ومحاصرته رغم تعدد مصادر تمويله ووجود إرهابيين من دول أجنبية.
ركز السيسى منذ البداية فى كلمته المهمة على تعزيز مكانة ودور الأمم المتحدة كقاعدة أساسية لنظام دولى عادل وفاعل، يقوم على توازن المصالح والمسئوليات، واحترام السيادة ونشر ثقافة السلام، والارتقاء فوق نزعات العنصرية والتطرف والعنف، وتحقيق التنمية المستدامة، مؤكدا على أن تلك هى القيم التى حكمت الرؤية المصرية تجاه الأمم المتحدة منذ مشاركتنا فى تأسيسها قبل سبعة عقود، وخلال الفترات الست التى انتخبت فيها مصر لعضوية مجلس الأمن الدولي، وآخرها عاما 2016 و2017، كما أنها الدافع وراء إسهام مصر النشط فى عمليات حفظ السلام الأممية لتصبح سابع أكبر مساهم على مستوى العالم فى هذه العمليات.
بهذا الإيمان الراسخ بقيم ودور الأمم المتحدة، ومن منطلق المصارحة، رأى السيسى أنه علينا أن نعترف بأن ثمة خلل يعترى أداء المنظومة الدولية، ويلقى الكثير من الظلال على مصداقيتها لدى كثير من الشعوب، خاصة فى المنطقتين العربية والأفريقية اللتين تعيش مصر فى قلبيهما، فكيف نلوم عربيًا يتساءل عن مصداقية الأمم المتحدة وما تمثله من قيم فى وقت تواجه فيه منطقته مخاطر التفكك وانهيار الدولة الوطنية لصالح موجة إرهابية وصراعات طائفية ومذهبية تستنزف مقدرات الشعوب العربية، أو يتساءل عن عدم حصول الشعب الفلسطينى على حقوقه المشروعة للعيش بكرامة وسلام فى دولة مستقلة تعبر عن هويته الوطنية وآماله وتطلعاته؟.
وتساءل الرئيس أيضا: هل يمكن اعتبار الأفريقى مغاليا إن شكا من انعدام فعالية النظام العالمى، بينما تعانى قارته من نظام اقتصادى يكرس الفقر والتفاوت، ويعيد إنتاج الأزمات الاجتماعية والسياسية، ولا يتيح آفاقا للتطور أو التقدم؟.. وذهب إلى أن أول هذه المبادئ أنه لا مجال لحديث عن تفعيل النظام الدولى إذا كانت وحدته الأساسية، أى الدولة الوطنية القائمة على مفاهيم المواطنة والديمقراطية والمساواة، مهددة بالتفكك، مضيفا: إننى أتكلم من واقع خبرة مصرية فريدة، لشعب قام بجهد جبار لاستعادة دولته وإنقاذ هويته، واختار أن تكون الدولة الوطنية القادرة والعادلة بابه للإصلاح وتحقيق تطلعاته فى الحرية والتنمية والكرامة.
لقد كان السيسى صادقا إلى حد بعيد فى إشارته الواضحة والصريحة بأن تفكك الدول تحت وطأة النزاعات الأهلية والارتداد للولاءات الطائفية بديلا عن الهوية الوطنية هو المسئول عن أخطر ظواهر عالمنا المعاصر مثل النزاعات المسلحة وتفشى الاتجار بالبشر والهجرة غير الشرعية، والجريمة المنظمة والتجارة غير المشروعة فى السلاح والمخدرات، نعم كان رسالته قوية فى وجه مجتمع دولى يعد الإرهاب صناعته الأولى، ولا شك أن المنطقة العربية أكثر بقاع العالم عرضة لمخاطر تفكك الدول الوطنية، وما يعقبها من خلق بيئة خصبة للإرهاب وتفاقم الصراعات الطائفية.
ونبه بجسارته المعهودة إلى أن قضية الحفاظ على قوام الدولة وإصلاحها أولوية أساسية لسياسة مصر الخارجية فى المنطقة العربية، فلا مخرج من الأزمة فى سوريا والكارثة التى تعيشها اليمن وليبيا وغيرهم من مناطق النزاع العربى الحالى، إلا باستعادة الدولة الوطنية، والحفاظ على سيادتها وسلامة مؤسساتها وتحقيق التطلعات المشروعة لمواطنيها، مؤكدا مرات ومرات على أن مصر فى طليعة الداعمين للحل السياسى الذى تقوده الأمم المتحدة فى تلك البلدان الشقيقة، وترفض أى استغلال لأزمات الأشقاء فى سوريا واليمن - على وجه الخصوص - كوسيلة لتحقيق أطماع وتدخلات إقليمية، أو كبيئة حاضنة للإرهاب والتطرف والطائفية.
وحول المبادئ الأساسية التى ترتكز عليها المنظمة الدولية فى التعامل مع القضايا الساخنة أكد بلغة مباشرة على الالتزام بإيجاد حلول سلمية مستدامة للنزاعات الدولية، فهى المبرر الأساسى لنشأة الأمم المتحدة، وعلى الرغم من جهود المنظمة الدولية فى نزاعات عديدة مثل جنوب السودان وأفريقيا الوسطى ومالى، فلا شك أن تلك الجهود ما زالت قاصرة عن إيجاد التسوية النهائية للنزاعات، بل إن هناك حاجة ماسة لحشد الموارد لمساعدة الدول الخارجة من نزاعات على إعادة تأهيل مؤسساتها وبدء إعادة البناء والتنمية، وأشار السيسى فى هذا الاتجاه إلى أنه تتم ترجمة هذا المبدأ إلى دعم محدد للجهود الوطنية لتجاوز الصراعات وبناء الدول وفقا لأولوياتها، مع تجنب فرض نماذج مستوردة للحكم أو التنمية، أو التدخل فى الشؤون الداخلية للدول وانتهاك سيادتها.
وهذا صحيح دون أدنى شك فلا يمكن أن نتحدث عن تسوية المنازعات كمبدأ مؤسس للأمم المتحدة، ومؤشر على مصداقيتها، دون أن نشير إلى القضية الفلسطينية التى تقف دليلا على عجز النظام الدولى عن إيجاد الحل العادل المستند إلى الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة، والذى يضمن إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، خاصة أن مرجعيات الحل العادل ومحددات التسوية النهائية معروفة، ولا مجال لإضاعة الوقت فى سجال بشأنها، فالمطلوب - على حد قوله - هو توفر الإرادة السياسية لاستئناف المفاوضات وإنجاز التسوية وفقا لهذه المرجعيات، ولذلك قال: سأكرر هنا ما ذكرته فى سنوات سابقة على هذا المنبر، من أن يد العرب لاتزال ممدودة بالسلام، وشعوبنا تستحق أن تطوى هذه الصفحة المحزنة من تاريخها.
إن مصر كما تعلمون - هكذا قالها السيسى بكل الثقة والوضوح - أطلقت منذ مطلع العام الجارى العملية الشاملة "سيناء 2018" لمكافحة الإرهاب ودحره نهائيا، من خلال استراتيجية تتناول الجوانب الأمنية والأيديولوجية والتنموية، وأستطيع بناء على هذه التجربة، وعلى خبرة مصر فى دعم مكافحة الإرهاب فى الشرق الأوسط وأفريقيا، أن أؤكد لكم أن حجم التمويل ونوعية التسليح والتدريب ووسائل الاتصال التى تحصل عليها الجماعات المتطرفة، فضلا عن التساهل فى انتقال وسفر المقاتلين الإرهابيين الأجانب، تشير إلى أنه لا مناص من بناء منظومة عالمية لمكافحة الارهاب حيثما وجد، ومواجهة كل من يدعمه بأى شكل.
ومن ثم فإن معالجة أوجه القصور الكبير فى تعامل المجتمع الدولى مع قضايا حقوق الإنسان الحقيقية التى تركز على استرداد الحقوق الضائعة ورفع الظلم عن الشعوب المتضررة جراء الاحتلال واغتصاب الأرض بدون وجه حق، أصبحت واجبة الآن على وجه اليقين، فلا مجال لاستعادة مصداقية الأمم المتحدة طالما استمر الملايين يعانون من فقر مدقع، أو يعيشون تحت احتلال أجنبى، أو يقعون ضحايا للإرهاب والصراعات المسلحة.
صدقت سيدى الرئيس، فإن حماية حقوق الإنسان لن تتحقق بالتشهير الإعلامى وتسييس آليات حقوق الإنسان، وتجاهل التعامل المنصف مع كافة مجالات حقوق الإنسان بما فيها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإن مصر تمتلك أساسا دستوريا راسخا لحماية حقوق الإنسان بأشمل معانيها، وقد شهدت قفزات نوعية خاصة فى مجال تمكين المرأة والشباب، فباتت المرأة تشغل 25% من المناصب الوزارية ، وأكثر من 15% من مقاعد البرلمان، كما يتم الاعتماد على الشباب فى مختلف المناصب القيادية فى الدولة.
فضلا عن ذلك فقد صارت المؤتمرات الدولية للشباب التى تعقد فى مصر سنويا، محفلا دوريا وثابتا للتواصل بين الشباب والتعريف بشواغلهم وأولوياتهم، ومصر فى هذا عازمة على أن تجعل قضية التمكين الاقتصادى للمرأة، إلى جانب قضايا الشباب وقضايا العلوم والتكنولوجيا والابتكار فى طليعة أولويات رئاسة مصر لمجموعة الـ77 والصين، كنموذج عملى لتطبيق التزامنا بمفهوم شامل للارتقاء بأوضاع حقوق الإنسان بأوسع معانيها.
واختتم السيسى كلمته التى كانت بمثابة قذائف قوية نابعة من صدق النوايا، إن مصر شأنها شأن الغالبية الساحقة من شعوب ودول العالم لها مصلحة أكيدة فى استعادة مصداقية العمل الدولى متعدد الأطراف ودور الأمم المتحدة كقاطرة له، شريطة تحقيق ميزان العدل بين الدول والشعوب التس تشردت بفعل قوى الشر العظمى فى العالم، ونحن نؤمن بأن المنظمة قادرة على تجاوز التشكيك فى جدواها ومصداقيتها من خلال استعادة المبادئ السامية التى تأسس عليها ميثاق المنظمة، والعمل وفقا للأولويات التى تناولتها، والتى تعكس طموحات شعوبنا، فبذلك فقط، تستعيد منظمتنا مصداقيتها، وتستعيد شعوبنا ثقتها فى مستقبل قائم على السلام والتعاون واحترام الآخر.
تلك كانت بعض الرسائل القوية التى ألقى بها الرئيس فى وجه قادة العالم كقذائف مدوية فى أروقة المنظمة الدولية، موضحا الحقائق المذهلة على الأرض جراء الكيل بمكيالين من جانب دول العالم الكبرى التى تدعى الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، وهى التى تمول الجماعات الإرهابية فى الخفاء وبالخديعة، دون أن تدرى بأن الحقائق أصبحت واضحة أمام العيان، ومن ثم ينبغى عليها أن تتحمل - ضميريا - مسئوليتها التاريخية أمام شعوبها المخدوعة طوال الوقت بدعوى الحفاظ على الدولة الوطنية.