مرت، منذ أيام قليلة، ذكرى حريق مدينة لندن، والمعروف فى التاريخ بحريق لندن الكبير، الذى وقع فى سنة 1666 ميلادية، وقضى على أكثر من 10 آلاف منزل فى ثلاثة أيام بما يعادل 80% من تراث المدينة الشهيرة، وتخيلت كيف كان حال الناس فى ذلك اليوم البعيد، وهم يشاهدون كل شىء يحترق أمام أعينهم بينما العجز يفرض كلمته، نفس الإحساس الذى أصابنى أول أمس، وأنا أشاهد متحف البرازيل الوطنى يحترق تمامًا كأنه مشهد فى فيلم سينمائى.
هل شاهدت متحف البرازيل وهو يحترق؟ لو لم تفعل أرجوك اذهب لمشاهدته، ثم عد لتكمل قراءة المقالة، لأن نظرة واحدة إلى النار المشتعلة فى كل شىء ستؤكد أن الإنسان ضعيف حقًا، مهما أوتى من قوة، ومهما امتلك من إمكانيات، وأنه وتاريخه وحاضره يمكن أن يصبح لا شىء فى محض لحظة أو ساعات، هذه هى الفكرة الثانية التى سيطرت علىّ بعد مشاهدة الحريق.
أما الفكرة الأولى والأكثر أثرًا هى أن حريق متحف البرازيل جعلنا نعيش كارثة إنسانية بكل معنى الكلمة، لقد أصبحنا شهودًا على ذاكرة إنسانية كاملة تضيع أمام أعيننا، ذاكرة أكلتها النار التى أكلت كل شىء، 20 مليون أثر فقدها العالم منها أقدم هيكل عظمى لإنسان فى العالم عمرها 12 ألف عام.
هل لاحظ بعضكم أننا لسنا على القدر المناسب بالإحساس بالفجيعة، نعم أتفق مع ذلك، لأننا أخذنا على حين غفلة، كما يقولون، فلم يكن أحد يتخيل أننا فى القرن الحادى والعشرين، وفى ظل هذه الثورة التكنولوجية التى تغزو كل شىء، يمكن لحريق مهما كانت قوته أن يقضى على متحف كامل بينما الناس تقف واضعة أيديها على رؤوسها، كما توضح الصور المنتشرة التى تنقل حجم الكارثة.
لقد كان التاريخ يضيع فى البرازيل وسط مشاعر كثيرة بالضياع والعجز والخيبة وقلة الحيلة، سوف تتحدث الأجيال المقبلة عن الكارثة ويعدونها من كوارث القرن الواحد والعشرين وسنرى الباحثين التاريخيين ورجال الآثار ينشطون فى السنوات المقبلة لمحاولة تسجيل ما فقده الإنسان فى البرازيل، والبحث عن متشابهات لها فى المتاحف الأخرى فى محاولة لملئ الثغرات التاريخية التى سوف يحدثها هذا الحريق المشؤوم.
لماذا لم يتدخل العالم لإنقاذ المتحف، لماذا لم تطلب البرازيل ذلك، التراث الذى ضاع كان يخص الإنسانية كلها، والقطع الأثرية التى انتهت تنتمى للعالم كله، تمنيت لو تحركت الدول الكبرى لتقلل من حجم الكارثة بالسرعة نفسها التى تتحرك لتضرب شعبًا وتحتل بلادًا.