لم يكن صاحب سلطة أو جاه، ولم يرث عن أبيه سوى حكمة جعلها شعارا لحياته "إن الله مع الصابرين".. اختار أن يعيش الحياة على طريقته الخاصة "اشغل نفسك بنفسك ودع كل شىء يجرى وفقا لما هو مقدور".
كان يقضى النهار بأكمله منكبا على قوت أبنائه السبعة، لا يهمه إذا كان واقفا على قدميه تحت أشعة شمس الصيف الحارقة أو غارقا فى أمطار الشتاء، وفى كل الأحوال كان الشارع ميدانه الوحيد لكسب القوت الحلال، لم ينشغل لحظة بتورم ركبتيه أو أمراض العظام التى أصابته منذ وقت مبكر، بسبب طول ساعات العمل واقفا.
كان همه الأول أن يسهر على راحة الناس، وأن يؤمن احتياجات صغاره.. إنه عم شحتة عامل النظافة البسيط بمجلس محلى مدينة منيا القمح بالشرقية، الذى يذكره كل تجار وقاطنى شارع القيسارية التجارى المزدحم دوما، رغم إحالته للمعاش منذ أكثر من 10 سنوات.
عن أبى اليوم أكتب وبكل فخر.. أنا ابن عامل نظافة بسيط، كنا له كل شىء، وهبنا عمره، وصحته كى نحيا كراما، لم يبخل عنا مرة بما نريد أو نطلب.
اليوم يا أبى والدموع تغلبنى على رحيلك، أضع أمامى بعضا من كتب العقاد وروايات إحسان عبد القدوس، توفيق الحيكم، ومن قبلها مجلة ميكى، والصحف والمجلات المصرية والعربية التى كنت تحرص على شرائها لى رغم ضيق ذات اليد كى تسعدنى.. لم تنل يا أبى شهادة جامعية لكن إجادتك للقراءة، وخطك الجميل كان دوما محل غبطتى لك، هل تذكر.
كنت أفرح دوما بالجديد الذى كنت تحمله لى فرحا من كتب مهرجان القراءة للجميع وأنا عائد للبيت بعد يوم عمل شاق، أدين بالفضل لك بعد الله ياأبى بكل كتاب قرأته، وبكل حرف خطته منذ أن التحقت ببلاط صاحبة الجلالة فى 2002 محررا تحت التمرين، حتى صرت اليوم مديرا لتحرير "اليوم السابع" أكبر وأهم المواقع الصحفية فى مصر.
لن أنسى يا أبى سخاءك وكرمك معنا لدرجة أنك لم تكن تقبل أن تتناول أى طعام دون أن تشركنا معك فيه حتى لو كنت مضطرا ، لذلك بفعل طبيعة عملك وتواجدك لفترات طويلة خارج المنزل، أذكر يا أبى سندوتشات الفول التى كنت تعود لنا بها فى بعض الأيام آخر النهار لأنك تناولت مثلها خلال دوامك .
لم يكن لك أصدقاء ولا أعداء.. اخترت أن تلزم بيتك والمسجد بعد الإحالة للمعاش، ولم تكن من حزب القيل والقال.. كنت بسيطا فى كل شىء حتى فى رحيلك المفاجئ والمباغت.. قررت أن تذهب بلا جلبة أو ضجيج.
صدقنى يا أبى أنت أكثر الشخصيات تأثيرا فى حياتى ، وفى القلب ستبقى .. سأعلم أبنائى من بعدى قاعدتك الذهبية للتصالح مع الذات، ومع الآخرين، وحين تضيق علينا الدنيا بما رحبت "سلمها لله" .
عامل النظافة البسيط الذى قام بتربية وتعليم 7 من الأبناء وجعل منهم صحفيا ومهندسا ومحاميا فى حين تخرج الباقون من كليات التربية والآداب هو أب مثالى يستحق أن نفخر به جميعا حتى آخر نفس فى صدورنا.
لن أنساك أبدا يا أبى.. فأنا مدين لك بعد الله عز وجل بكل قطرة دم تجرى فى عروقى وكل نفس يخرج من صدرى.. اليوم أنحنى بكل فخر أمام قبرك، وأقول لك أحبك وأفخر بك.. وأعدك أننى لن أنساك أبدًا طالما فى عرق ينبض ولسان يتحرك.