أحيانًا ما يغلبنا التأويل حينما نشاهد أفلام السينما خاصة ولو اتسمت بطابع فكرى. لذلك كنت أشاهد فيلم الضيف من منظور شخصى ووفق تأويلات خاصة. فلم أتلقاه كقصة عادية لمثقف وكاتب ليبرالى استقبل فى بيته خطيب ابنته الوحيدة على دعوة عشاء ليكتشف أنه إرهابى يريد اغتياله. بل شاهدت صورة أعمق من هذا بكثير. رأيت الفيلم ملحمة مبسطة عن المواجهة التاريخية بين الليبرالية والحكم الدينى للسيطرة على عقل مصر. فرأيت فى يحيى حسين التيجانى «خالد الصاوى- بطل الفيلم – مفكر وكاتب علمانى مشهور» كل المثقفين الذين آمنوا بالليبرالية وحرية التفكير ورفض التكفير. رأيت فيه كل من استخدم عقله فى فهم الدين والوصول إلى مقاصده وليس إلى مقاصد رجال الدين وأهوائهم أو تصوراتهم.. ورأيت فى زوجته المسيحية «شيرين رضا» كل المسيحيين الذين عاشوا على أرض وطنهم فى أمان واستقرار وحب إلى أن ظهر هذا الضيف المخيف.. وشاهدت فى ابنته «جميلة عوض» مصر أو هوية العقل المصرى التى يتنازع عليها المثقفون والإرهابيون.
ورأيت فى أسامة «حسن مالك – الضيف الإرهابى» كل أذرع المد السلفى والوهابى التى تشابكت فجأة وتحولت على نفسها، ووجدت فى الإرهاب والترويع أفضل الوسائل لنشر الدين!!.
شاهدت الفيلم من هذه الزاوية وغلبنى التأويل فى الحكم عليه خاصة أن الفيلم حوارى ولا يميل إلى الإبهار السينمائى المعتاد، ورأيت ذلك ميزة تدفع المشاهد للتركيز على الحوار وفهم أفكار صناع الفيلم رغم أن ذلك قد يعتبر من نقاط الضعف فى الأعمال السينمائية التى تحتاج دائمًا إلى قدر من الإبهار والتنوع فى حركة الكاميرا ورسم المشاهد واختلاف أماكن التصوير.. ولكن تأويلى الخاص للفيلم جعلنى لا ألتفت لكل ذلك. بل وجدت من السيناريو والحوار ما يعطينى مبررات أكثر للتعمق والتفكير فى قصة الفيلم ومغزاها.. وانتبهت لعدة نقاط جوهرية أود الإشارة إليها. فالبطل أو نحن الليبراليين والمثقفين وهذه الفئة التى أطلقت على نفسها الصفوة!! لم تلتفت إلى مدى تأثير أفكارها الوسطية المستنيرة فى الهوية المصرية أو فى العقل الجمعى.. حتى أن يحيى التيجانى فوجئ بانقياد ابنته وانبهارها بالأفكار الدينية الجامدة التى سربها الإرهابى الذى تحبه إلى عقلها ليكتشف أنها لم تقرأ له كتاب واحد ولم تعى من أفكاره المستنيرة فكرة واحدة وأنه لم يهتم يومًا بأن يسألها هل قرأت كتبه أو أقنعتها أفكاره بل تركها للمد السلفى والوهابى وأفكارهم الغريبة الغارقة فى الذكورية والتحريم والتكفير.. وهذه حقيقة لابد أن نعترف بها فأثر المثقف المصرى على العقل الجمعى وعلى الهوية الفكرية لهذا المجتمع كان ضعيفًا جدًا فى العقود الأخيرة بل كاد أن يختفى تحت وطأة الأفكار الدينية المتجمدة والمحرفة الوافدة من الخارج. كنا دائما بارعين فى خلق الأفكار فاشلين فى الترويج لها ونشرها بين الناس. لذلك تراجعت الهوية المصرية وانصاعت لتيارات نراها فى الكثير من الأحيان متخلفة. حتى أن حوار البطل مع رجل الأمن المسؤول عن حمايته كان يحمل نفس المعنى فرجل الأمن يدعوه لأن يكف عن الهجوم على رجال الدين ومعاداتهم وكأن مراجعة رجال الدين جرمًا فى حق الدين نفسه فحتى رجل الأمن يحميه بدون أن يفهم حقيقة أفكاره وأهميتها. ونقطة أخرى أوضحها الفيلم ببساطة وهى قيمة الفن والإبداع فى تركيبة المجتمعات والشعوب ففى حديث البطل عن حياته مع زوجته المسيحية وحبهم المتبادل وكيف جمعهم الفن فهما يسمعان أم كلثوم وهى ترتل القرآن ويستمتعان بفيروز تغنى ترانيم الإنجيل.. هذه الرسالة الفنية التى افتقدها المجتمع المصرى والثقافة الشعبية وكيف تحولت من هذا الجمال والعمق إلى الكثير من السطحية والقبح.
وكان من الملفت أيضًا الحوارات الدينية التى درات بين البطل والإرهابى وكيف كان البطل يستعين بالمنطق والحجة والعقل بينما يكتفى الإرهابى بالنقل وترديد ما يحفظه بلغة مصطنعة وكأنه يعطيها شرعية دينية بتلك الفصحى. وأيضًا حينما جلست الأم المسيحية مع ابنتها وصارحتها بأن إعجابها بهذا الشاب أو قل هذا الشكل الدينى كان لمجرد أن تختلف عن مصر القديمة وأن تتميز عن الثقافة التى عاشت فيها، ولكن من قال إن كل اختلاف للأفضل أو كل تميز مرغوب. على أى حال أرى ان الفيلم رائع ومفعم بالتأويلات والزوايا الفكرية المتباينة وهذا من أسرار نجاحه. فشكرًا لكل من شارك فى هذا العمل الفنى والفكرى الرائع وشكرا للجمهور المصرى الواعى الذى جعل هذا الفيلم من أنجح الأفلام الآن. وتحية خاصة للمبدع إبراهيم عيسى وقدرته على صياغة كل هذه الأفكار القيمة فى عمل فنى جماهيرى. وإن كنت أريد أن أسأله هل قتل يحيى التيجانى الإرهابى فعلا أم أنه يتمنى ذلك؟..