هناك مسائل شرعية أحكامها محسومة بنصوص قطعية، منها أركان الإسلام الخمسة، والمحرمات كالقتل والسرقة والزنى والربا والخمر وأكل لحم الخنزير.. إلخ، ولا تنسب هذه الأحكام المجمع عليها إلى اجتهادات سلفنا الصالح؛ فجهودهم فيها اقتصرت على ذكر نصوصها من القرآن والسنّة، وهذا ليس اجتهادًا، وإنما هو بيان لتلك الأحكام الشرعية التى تكفلت النصوص بحسمها؛ لأن الخلاف فيها يضر ولا يفيد.
وهناك مسائل أخرى كثيرة لم تحسم أحكامها؛ لكون النصوص التى حملتها نصوصًا ظنية حمالة لوجوه دلالية ناتجة عن تعدد الاستخدام اللغوى للألفاظ، كالترادف الذى يعنى اتفاق عدة ألفاظ فى معنى واحد وقابليتها للتبادل فى الموضع الواحد، والمشترك اللفظى الذى يعنى أن يكون للفظ الواحد أكثر من معنى، كلفظ «القُرء» الذى يستخدم لغةً للطهر والحيض معًا، وهناك أسباب أخرى تسمى بأسباب الخلاف بين العلماء، وقد سبق الحديث عنها فى مقالات سابقة.
وهذه الأحكام التى استنبطها سلفنا الصالح من الفقهاء هى أحكام اجتهادية تُنسب إليهم ما دامت لم تحسم بنص شرعى قطعى فى دلالته، وموقفنا من هذه الأحكام الاجتهادية يجب أن يكون موقف احترام لجهود هؤلاء العلماء، وتقديرًا لما بذلوه فى استنباط هذه الأحكام، من خلال تتبع هدى الشرع الحنيف وقواعده العامة، واستخدامهم قواعد النظر والاستنباط قياسًا على أحكام أصول مستقرة، أو غير ذلك من قواعد الاستنباط التى يعرفها أهل الاختصاص، تلك القواعد التى ليس من بينها حب الخلاف أو السعى إليه، أو الهوى والعصبية!
ولذا، فإنه من العيب والتجنى الاستهانة باجتهادات هؤلاء العلماء، وإن بدا لبعض الناس عدم ملاءمتها لمتطلبات العصر، خاصة أن ذلك يترتب عليه تطاول سفهاء الأحلام عليهم، وفخرهم بالمجاهرة باتهامهم بالجمود وقصر النظر، وغير ذلك من اتهامات يعف اللسان عن ذكرها، غير مدركين أنه لولا اجتهادات هؤلاء العظماء ما فهمنا ديننا، ولا استقمنا عليه حتى فى صلاتنا!
وكما أنه من الخطأ الشديد ترك تراث هؤلاء العلماء والتعامل مع اجتهاداتهم بالجحود والنكران والتطاول، فإن الغلو فى قبول هذا التراث والتعامل مع اجتهادات السابقين على أنها مقدسة لا يجوز الاقتراب منها، خطأ شديد أيضًا لا يقل عن الاستهانة بهذه الاجتهادات ورفضها جملةً وتفصيلًا، بل إنه من الجمود الذى تبرأ منه السابقون وحذرونا من التمسك المطلق بجميع اجتهاداتهم، أو رفض مجرد النظر فيها للوقوف على مدى ملاءمتها للزمان والمكان وأحوال الناس، أو اعتبار هذا المسلك من التفريط فى الدين واتباع الهوى لإرضاء الحكام أو حب الظهور، وغير ذلك مما يردده أنصار التمسك بكل موروث دون تفريق بين مقطوع به ثابت لا يتغير بتغير الزمان والمكان، واجتهادى مرتبط بالزمان والمكان وأحوال الناس.
فاجتهادات السابقين ليست مقدسة، ولا هى فى منزلة قريبة من الأحكام الثابتة بنصوص قطعية فى ثبوتها ودلالتها، بل هى اجتهادات ناسبت زمانها ومكانها، وليس بالضرورة أن تكون مناسبة لزماننا ومكاننا، ومن المقولات الرائعة التى لا أملُّ من تكرارها وترديدها والتى تنم عن نظرة ثاقبة من هؤلاء العلماء السابقين، ما قاله الإمام القرافى المالكى: «فمهما تجدد فى العُرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور فى الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك، فلا تُجْرِه على عُرف بلدك، واسأله عن عُرف بلده وأَجْرِه عليه، وأفته به دون عُرف بلدك، ودون المقرر فى كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدًا ضلال فى الدِّين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين».
وهذا النص الواضح عن بعض سلفنا - وغيره كثير - يبرئ ساحتهم من تقديس بعضنا لاجتهاداتهم، واعتبارها ثوابت لا تقبل النظر شأنها شأن الأحكام قطعية الدلالة، ويتحمل مَن يسلك هذا المسلك نتيجة الجمود عليها، والوقوف عند حدودها، وحمل الناس على الالتزام بها، على الرغم من عدم ملاءمتها للزمان والمكان وأحوال الناس، بل إن مَن يسلكون هذا المسلك يمنحون المتربصين بديننا فرصة ذهبية لإفقاد الناس ثقتهم فى دينهم، وتحطيم رموزهم من العلماء السابقين واللاحقين!
والناظر فى تراثنا الفقهى يعجز عن حصر المسائل التى اختلف فيها سلفنا الصالح نتيجة اختلافهم فى تقدير المفسدة والمصلحة المترتبة على الحكم المجتهَد فيه، فضلًا عن معاودة الفقيه الواحد لاجتهاده والرجوع عن اجتهاد سابق له، والقول بحكم جديد يخالف حكمه السابق بناء على ما ظهر له من أدلة؛ حيث اشتهر عن كثير منهم أكثر من قول أو رواية فى المسألة الواحدة، ولا يجهل كثير من الناس القديم والجديد للإمام الشافعى وما بينهما من خلاف فى كثير من المسائل، حتى اشتهر بين العامة أن للشافعى مذهبين فى الفقه: قديم فى العراق، وجديد فى مصر، وما هو إلا مذهب واحد اختلفت فيه اجتهادات صاحبه فى المسألة الواحدة لاختلاف العُرف بين مصر والعراق، إضافة إلى أسباب أخرى ليس هنا محل تفصيلها.
وعمر المجتهد قصير وإن طال، ولا سيما أنه لا يجتهد إلا بعد تجاوزه نصف عمره تقريبًا دراسةً على أيدى شيوخه ليتأهل بالعلم الذى يمكنه من الاجتهاد، وهذا يستغرق معظم مرحلة شبابه، فضلًا عن طفولته التى تستغرق جانبًا لا بأس به من حياته، ولا يكون فيها اجتهاد بطبيعة الحال، ولذا فإن تراجع المجتهد عن اجتهاده والقول بحكم جديد، يكون فى مدة زمنية قصيرة ربما لا تتجاوز عشرين أو ثلاثين سنة على أقصى تقدير. فإذا تغير اجتهاد الفقيه الواحد فى حياته الاجتهادية القصيرة، نتيجة اختلاف الأعراف، أو ظهور أدلة أو معطيات جديدة لم يقف عليها عند اجتهاده الأول؛ فإن الأَولى أن يُقبل هذا الاجتهاد من فقيه آخر بعد مرور عشرات السنين أو عدة قرون من الزمان، ولا سيما أنه غالبًا ما يصاحب ذلك تغيير فى ثقافة الناس واختلاف قدراتهم وأنماط حياتهم، وهو ما يتعامل معه المجتهد المعاصر.
وقد أقر السابقون هذا المسلك كما سبق ذكره عن الإمام القرافى مثلًا، ومن ذلك ما اتفقوا عليه كقاعدة يسير على هديها المجتهدون فى كل عصر ومكان، وهو تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص، ولذا يكون رفض التجديد وإنكار معاودة الاجتهاد فى المسائل التى تقبل الاجتهاد، خروجًا عن نهج سلفنا الصالح لا يتحملون هم تبعته، وإن كان الناس يطبقون أحكامهم التى تركوها لنا، بل نحن مَن نتحمل التبعة بترك هذه الأحكام دون إعادة النظر فيها، واستبدال أحكام تناسب العصر بها.
وتجدر الإشارة إلى أمر لا يقل خطورة عن التقليل من شأن سلفنا الصالح، أو تقديس اجتهاداتهم فى الوقت ذاته، وهو تصدى غير المؤهلين لمهمة النظر فى اجتهادات السابقين؛ فمن المؤكد أن ترك القديم على حاله والجمود عليه، أفضل كثيرًا من الأحكام التى سيصدرها هؤلاء غير المؤهلين الذين يفتقدون لضوابط النظر العلمى وشروط الاجتهاد التى منها الإخلاص وصدق النية والتجرد عن العصبية والهوى، فلا للتطاول على السابقين أو التقليل من اجتهاداتهم، ولا لتقديس ما خلفوه لنا من تراث فقهى اجتهادى، وألف لا لتصدى غير المؤهلين لمهمة النظر فى اجتهادات السابقين!