محمد حبوشه

المصري لم يعد "إبن نكتة" كأسلافه القدامى والمحدثين!

الجمعة، 18 يناير 2019 08:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
معروف عن الشعب المصرى أنه شعب خفيف الظل، يحب السخرية والهزل والفكاهة، حتى فى أشد لحظات ضعفه وانكساره، فعادة ما يفلسف حياته بالضحك ويكسوها بالسخرية من حاله تارة، ومن حكامه تارات أخرى، ولعل هذه السمة متأصلة فينا منذ قديم الأزل، ورثناها عن أجدادنا قدماء المصريين، إذ كان معروفًا عن الحضارة المصرية أنها واحدة من أغنى الحضارات وأكثرها تطورا وانفتاحا فى مجال الفكاهة والسخرية، حيث يظهر فيها الهزل فى كثير من الموضوعات سواء من الحياة اليومية، أو عبر الأساطير.
 
ولاشك أن الكوميديا لها دور فى صميم حياتنا النفسية والاجتماعية، فنحن نريد أن نضحك حتى نخفف عن أنفسنا بالكوميديا، إذا يبدو الضحك فى جوهره بالفعل ظاهرة اجتماعية، ولعل شيئاً من هذا المكان فى ذهن "صمويل جونسون" حين قال: (اختلف الناس فى الطريقة التى يعبرون بها عن حكمتهم، ولكنهم اتفقوا على الطريقة التى يضحكون بها)، والضحك، فوق هذا وذاك، ابتهاج بالحياة، أو كما عبر عنه "فولستاف"، ذلك الضاحك طيب القلب فى قوله لجمهوره: "تحبون الدنيا؟"
إذن لأستخدمن فنى فى إقناعكم بأنها هكذا فعلا".
 
ومن أجل ذلك ستجد أن الثقافة الشعبية المصرية مفعمة من الناحية الفكاهية بالمواقف الطريفة بالأقوال والحكم، وهى ظواهر صوتية تبدو مؤلمة تارة ومضحكة تارة أخرى، ولعل ذلك يعد السبب الجوهرى فى أن الشعب المصرى هو بالسليقة ابن نكتة، والمصريون معروف عنهم حب الدعابة والسهر فى جماعات أمام المقاهى التى تتحول إلى منتديات سياسية يلتقى فيها الجميع فى دوائر مستديرة لمناقشة مختلف القضايا، بدءاً بالسياسة وانتهاء بالأسعار والحوادث والقصص والحكايات المسلية، وهو الأمر الذى جعل الأغنية على مدار تاريخها حاملة للعديد من المعانى والمواقف التى تندرج تحت ما يسمى بالأغنية الفكاهية .
 
وحين نسرد تاريخ الضحك الغنائى أو كوميديا الفن الساخر في مصر سوف يبرز لنا على الفور اسم "بديع خيرى" الذى ارتبط إلى حد كبير بالمسرح الفكاهى، وأيضاً روائعه من الفن الغنائى فى نفس المقام والتى أظهرت من خلال أعماله الغزيرة والمتنوعة خفة الدم المصرية حتى أنه جعل نجيب الريحانى يغنى بصوته الأجش فى أحد أفلامه (غزل البنات): عينى بترف / وراسى بتلف\ وعقلى فاضله دقيقة ويخف.
 
وهذا دليل عملى على أن الكلمة الضاحكة ليس ضرورياً أن يتوافر لها مطرب محترف حتى تصل إلى هدفها، بل يلزمها فقط قدر ضئيل من الزخرف الموسيقى الذى يضفى عليها رونقاً يستسيغه أبناء الطبقات المصرية على اختلاف مصادرهم الثقافية، خاصة فى الأحياء الشعبية القاهرية التى وضعت لبنات هذا الفن عبر المواقف الحياتية اليومية التى يعيشها الصناع والتجار والسكان الجدد من أبناء الصعيد والوجه البحرى.
 
ما بين الدور والطقطوقة والموال الشعبى ظلت ملامح الأغنية المصرية طوال القرنين الماضيين "التاسع عشر والعشرين" تتنوع ما بين السياسى الساخر بسبب موجات الاستعمار التى ضاقت بها الحياة المصرية وبين الكوميدى الإجتماعى الذى يرصد حركة الشارع، وما يحمله فى أزقته الضيقة ومنحنياته التى تتلوى مثل الثعبان فى مواقف ومفارقات، يهدف من خلالها الشعراء والزجالون إلى الفضفضة والتحايل على ظروف الحياة بالضحك الذى يحمل سخرية لاذعة تصف حالات الضعف والهوان وظلم المستعمر وحتى ظلم الحكام من أبناء الشعب نفسه.
صحيح أنه مع كل طبقة جديدة تظهر تولد معها ظاهرة فريدة مغلفة بطابعها الكوميدي الخاص بها، لتبدوتحت سقف سماء مصر المحروسة ذات خصوصية تجعل الفكاهة المصرية، حاضرة تسرى مع مياه النيل يتجرعها الشعراء فتتجدد على الفور التربة الشعرية الساخرة وتتلألأ المواهب فى ليل القاهرة الساحر، وتفيض إبداعاً يجسد آمال وطموحات البسطاء والعامة.
 
وأبرز تلك المواهب التى كثيراً ما تغنت بها الطبقات الكادحة "بيرم التونسى"، الذى يعد أمير شعراء العامية بكل لهجاتها من المحيط إلى الخليج، وهو بالمناسبة بوصفه هذا زعيم لمدرسة أصيلة فى قومية التعبير العربى إنسانياً ووطنياً وجماليا، كما تجلت فى روائعه التى تغنى بها "سيد درويش" بطريقة محببة، وبلحن بسيط يخطف القلب والعقل معاً ورددها معه ومن بعده النجارون والصنايعية الذين يشكلون السواد الأعظم من أبناء مصر، خاصة فى حى (كوم الدكة) مسقط رأس درويش بالأسكندرية.
 
ولا يعد التونسى أميراً للعامية فحسب ، بل باعث نهضتها الأصلية وانتشالها من أمراض التلهى بالمخدرات وتعابير التهتك فى طقاطيق التدمير الغنائى والمسرح الخليع ورقص الصالات، وساعده على ذلك خديو مصر إسماعيل عبر الفرمان الذى أصدره عام 1890 بحيث جعل حرفة الآلاتية "الموسيقيين" ضمن طوائف "الصناديقية والسروجية والقلافطية والطرشجية والسقايين".
 
وحتى في عصرنا الحديث نجد أن النكتة في بعدها السياسي كانت تقلق الحكام والمسئولين، والدليل أن عبد الناصر تألم بسبب نكتة الأرز، والتي تقول: "رجل من القاهرة سمع أن الأرز متوفر في مدينة الإسكندرية، فسافر في القطار كي يحصل على قوت عائلته، فسأله "الكمسري" مسافر فين وليه؟ فأجابه مسافر الإسكندرية عشان أشتري الأرز"، ولما وصل القطار إلى طنطا قال له الكمسري "انزل هنا"! فسأله طيب ليه وإحنا لسه موصلناش الإسكندرية؟ فأجابه "مش إنت رايح عشان تشتري الأرز؟ انزل لأن الطابور يبدأ من هنا"، وتردد أن هذه النكتة آلمت عبد الناصر كثيرًا فاستدعى وزير التموين وأمره بتوفير الأرز للشعب بأي طريقة.
 
ويقول المؤرخ الدكتور عاصم الدسوقي: الرئيس جمال عبد الناصر كان دائما يسمع النكات التي كانت تقال عنه، وأحيانا كان يتخذ قرارات بناءً عليها، وكانت تمثل له الرمز والقوة ولذلك لم يغضب منها، لأن كل النكات كانت عن البطش والقوة، ولكن أحيانا ينال الغضب أي كاتب، وهو ما حدث مع أنيس منصور، وتم فصله من مجلة الجيل التي كان يرأس تحريرها، وذلك بسبب سخريته من عبد الناصر وتشبيهه بحمار، أما السادات فكانت النكات تمثل احتقار منه، وكان يغضب بشدة لأن النكتة كانت تكشف عما بداخله.
 
أما الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم فيقول من قبل: أن عبد الناصر عندما تكون هناك أزمة يتم حلها عندما يخطب، ولكن السادات عن يخطب تحدث المشكلة، أما عن مبارك فكان الموضوع ألعن وتمثل سخرية من كل ما يخصه، وذلك منذ بداية حكمه، وكانت هناك استهانة منه في السخرية، ولكنه كان يستمع إليها بدون مشاكل، وكان هو ونظامه يسيرون على مبدأ"سيب الناس تقول اللي هي عايزاه"، وذلك من أجل الإيحاء بأن هناك ديمقراطية، ولكن كان يحدث تهميش لأي كاتب يحاول السخرية منه، وهو ما حدث مع عدد غير قليل من الكتاب.
 
وفي ذات السياق تم حبس الكاتب الساخر "محمود السعدني" عامين بتهمة السخرية من السادات وزوجته، وذلك بعد أن وجد السعدني نفسه في قائمة الماثلين أمام محكمة الثورة في قضية مراكز القوي التي حوكم فيها عدد من رموز النظام الناصري بتهمة الترتيب لانقلاب علي السلطة, وكانت تهمة السعدني إطلاق نكات ساخرة عن السادات وزوجته جيهان، ومنها نكتة قال فيها إن جمال عبد الناصر رغم عظمته أذاقنا الخوف طوال ثمانية عشر عاما, ويبدو أن السادات سيميتنا من الضحك بعد ثمانية عشر يوما من حكمه لنا."
 
لكن يبدو لي أن الضحك من القلب بفعل الظروف السياسية العصيبة تغير في شكله وملامحه في وقتنا الحالي، لتبدو لنا ظاهرة جديدة  تعد نوعا من "السماجة"، حيث تتسم بثقل الظل مثل حالة المدعو "أبو حفيظة" وأمثاله في إطار ظهور طبقة جديدة من المضحكين الجدد، لكنه وبلا أدني وعي يرتكب هو وغيره من هؤلاء جريمة منظمة لا تفضي إلى ذلك الضحك المستحب، بقدر ما ترسخ للتردي وترك أثر سلبي لدى أطفالنا وشبابنا الذي سينظرون حتما إلى هذا التراث بقدر من الاستخفاف، بعد أن استبدل "أبو حفيظة" وأعضاء "مسرح مصر" بطريقة شريرة كلمات أغان مصرية طربية شجية غاية في العذوبة والرومانسية وبث الروح الوطنية، بكلمات مبتذلة على جناح سخرية مفتعلة بدعوى مواكبة روح العصر.
 
أعلم أن لهؤلاء "المتنطعين" في بساتين الفكاهة أنصار ومريدين يرون فيهم مصلحون اجتماعيون خفيفي الظل، بل إنهم يتسشدقون بقول: إن الغرض من التنكيت كان منذ فجر التاريخ  يرمي إلى تناول موضوعات محظور الاقتراب منها بروح من الدعابة للتملص من الوقوع تحت طائلة القانون - وهم محقون في ذلك - فالتهكم الذي يفضي إلى الضحك أو كما يعرف بالدعابة إحدى صور الرفض غير المباشر لموضوع ما، وهو تعبير أكثر حرية عن الرأي، ما جعل في المناخ المصري متسعا للتنفيس عن الواقع المؤلم  بالسخرية والتهكم.
 
وفي هذا لم يغفل الكاتب المصرى إظهار حسه الفكاهى والسخرية فى الأدب، إذ تحتوى السخرية فى الأدب المصرى القديم على عبارات من النقد، والتهكم والدعابة، وذلك بهدف التعريض بشخص ما، أو بفكرة ما، ومحاولة نقد سلبياته عن طريق الكلمة، إذ تضمنت كثير من النصوص الأدبية المدونة على البرديات الفرعونية كثيرًا من العبارات المضحكة والساخرة، وبالتالى نجد أن الأدب الساخر له أصول ممتدة عند المصرى القديم، 
لكن هيهات بين الضحك قديما عندما النكتة المصرية جزء من الثقافة المصرية، ولعل مواقع التواصل الاجتماعي تعكس اختفاؤها الآن أو تضاؤلها كدليل على أن ما يعانى منه المصريون كبير، فلم يستخدمها المصريون للمقاومة والدفاع بل كانوا يستخدمونها أيضاً كمحاولة للتصبير والرضا بالواقع، مع أمل فى تغييره للأفضل، وهذا ما حدث وقت حكم الإخوان، عندما قاوم المصريون بالسخرية من الإخوان، ومن رئيسهم ومرشدهم، حتى انتهى الأمر بالإطاحة بهم من الحكم، وهذه هى قوة النكتة المصرية، وأحد أسرار الشخصية المصرية عبر مر التاريخ، حتى أنه "عندما كان يمر يومان ولا تظهر في مصر نكتة واحدة تدرك حينها حجم المأساة".
 
والسؤال الآن : لماذا لم يعد المصري "إبن نكته" كأسلافه من القدامى والمحدثين؟، وهل المصري يعي أنه لو كسرت معنوياته فسيحتفل أعداءه بالحرية، لذا لم يعد حريا أن نجده مهزوما صبيحة كل مأساة، ثم هل تأتي تلك اللحظة التي يندفع فيها خارجا من حفرة الانكسار والانتصار المصري علي بؤسه الذي يعيد ابتسامة أمل تعديد له جوهره الساخر الكفيل بصناعة الفكاهة من جديد بدلا من السباب المستشري على الفيس بوك وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي؟!، حتى أصبحت البلد الآن: (عاملة زي واحد أخرس بيقول لواحد أطرش إن فى واحد أعمي شاف واحد مشلول بيجرى ورا واحد أقرع بيشد فى شعره).
 
ومن أجل كل ما مضى أشك في عودة الفكاهة سارية على لسان المصريين الآن في ظل الضغوطات الاقتصادية التي ضاق المصريون بها خلال السنوات القليلة الماضية، بعد أن انقرضت  النكتة وانتهت رسالتها بعدما ارتادها فاقدو المواهب ومستخدمو الألفاظ الخارجة منه، كما نلاحظ ذلك في الواقع العملي أو عبر الفضاء التخيلي، وهو ما يأتي في تواز تام مع شظف العيش وقيلة الحيلة التي أحدثت تجريفا متعمدا في حياة المرح التي عاشها المصريون طويلا على ضاف النيل، مستمتعين بالسهر والسمر في ليالي البهجة والسرور.. رحم الله أيام زمان وقت أن كان المصري ابن نكتة بالسليقة.
 
 






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة