كم رسالة مصورة وبالفيديو وصورًا ثابتة ومتحركة وصوتية وضوئية تلقاها الواحد منا على «واتس آب» أو فيس بوك، فى رأس السنة! مثلما فى الأعياد والمواسم المختلفة.. عشرات.. مئات وربما آلاف من الرسائل يتلقاها الواحد منا ويرسلها بشكل آلى، على واتس آب أو فيس بوك، البعض أحيانًا يتلقى الرسالة ويرسلها وهو شبه نائم، فهو مواطن افتراضى بين افتراضيين. وقد يحرص البعض على أن تكون رسالته مختلفة تلفت النظر. والبعض ينتظر ماتنتجه قرائح الافتراضيين، ويفتش فى بحور الإنترنت على الجديد والمثير. وفى المواسم تنطلق كميات هائلة من الكوميكس تحمل نكات أو مشاهد مضحكة، بعضها معاد وقديم، وقليلها جديد ومثير، لكنه كاشف عن الشعور العام والخاص.
تجرى عمليات تبادل الصور والفيديوهات والكوميكس، فى صمت وبشكل افتراضى، ومن النادر أن يفكر أحد فى الاتصال مباشرة بمن يريد تهنئته، فى زمن «التهانى الساكتة» هى الوسيلة الأكثر شيوعًا وهو أمر لم يعد يثير الاستغراب أو الدهشة، مثلما كان فى بداية عصر الموبايل.
العالم بعد ظهور الموبايل، غير قبله، تغيرت حياة الناس بشكل درامى، والموبايل الذكى «تاتش» ثورة داخل الثورة، بعد أن كنا نسميه «التليفون المحمول»، يومها كانت الرسائل القصيرة «إس إم إس» فى حد ذاتها اختراعًا مثيرًا. ومع الوقت أصبحت الرسائل القصيرة وسيلة للتهانى فى الأعياد والمواسم. ظهرت ابتكارات لأشكال من الرسائل المصورة الجاهزة، ويومها كان البعض بدأ يشعر بأن الدنيا تتغير، حيث توقفت المكالمات المباشرة وأصبحت من الماضى لتحل مكانها الرسائل القصيرة، والتى بدأت تدخلها ابتكارات ونسخ جاهزة يرسلها واحد لغيره فتبدأ فى التنقل من يد لأخرى ومن شاشة لغيرها.
وبعد أن كانت الصور المتحركة بالتهانى والنجوم والأضواء تمثل قفزة، مع الوقت أصبحت الرسائل القصيرة من زمن ماض، وانتهى زمن الرسائل الإخبارية التى شكلت نوعًا من التحول فى نشر الأخبار العاجلة.
ليست التهانى وحدها بل التعازى أيضًا تتم بشكل افتراضى بين بشر بعضهم لم يقابل الآخرين من قبل، لكنه عرفهم «فريندز» وهى مكانة تحمل اسم الصداقة، لكنها ليست من الصداقة فى شىء، بل هى ضمن علاقات افتراضية تقوم وتبدأ وتنتهى عند حدود شاشات أجهزة اللابتوب والموبايلات الذكية. حيث « الصديق ليس هو الفريند» وإنما شخصا آخر افتراضيا لايشترط أن يلتقى «الفريندز» مثلما يفعل مع الأصدقاء الحقيقيين، أو الأقارب وفى بعض الأحيان تتساقط الحوائط بين العالمين الافتراضى والطبيعى ليكتفى الواحد بتقديم العزاء افتراضيًا أو التهانى وينسى الفرق بين المنزلتين. ويتحول بعض الأصدقاء وأفراد العائلة إلى «فريندز» افتراضيين، حتى وهم يجلسون معًا، حيث ينكب أفراد العائلة كل على شاشته، ليبتسم ويضحك ويحزن، و«يشير» مشاعره وبوستاته مجالسوه، حيث تتقلص مساحات الكلام وتختصر فى بوستات وجروبات «واتس آب وفيس بوك».
يبدأ الواحد يومه بتصفح «جروبات الواتس آب»، وصفحته على فيس بوك، وهناك تنتشر أخبار الرحيل والزواج والمناسبات، ويسارع المواطن الافتراضى بتوزيع تعازيه وتهانيه ولايكاته على بوستات «الفريندز»، «لايك قلب ضحكة» للتهانى، وعلامة «الدمعة» فى التعازى.. الأغلبية تكتفى بالعلامات، والبعض يزيد ويكتب عزاء أو تهنئة، وهى أمور تتم معا. ولم تعد تثير دهشة. بل إن الرسائل القصيرة التى كانت تحمل بعض الكتابة المباشرة، أصبحت موضة قديمة وحلت مكانها الفيديوهات والصور المتحركة والكوميكس الجاهز.
ومع الوقت يسقط الحائط الرابع بين «الفريند» والصديق، فى عالم افتراضى، لا يربط أعضاءه ببعضهم أكثر من العلامات والمشاعر الجاهزة. ويختفى الصديق الذى هو كائن من لحم ودم، تعرفه ويعرفك، تزوره ويزورك تجالسه تحدثه مع الوقت يصبح مجرد بوست صامت أو ملصق متحرك أو ثابت، لايك أو دمعة افتراضية. ويصبح من يكتبون رسائل بأنفسهم من أعماق الماضى السحيق، مثل هؤلاء الذين مازالوا يتحدثون فى التليفون الأرضى.
وتسود التهانى الجاهزة والمعلبة فى أعياد الميلاد وشم النسيم وعيد الفطر ومولد النبى. فى البدء حلت التليفونات مكان الزيارات، والرسائل القصيرة محل الاتصالات، ثم «زمن التاتش» حيث الإنسان «العوالمى» يمارس حياته الاجتماعية من خلف شاشته فردا مع أفراد، وحتى فى السياسة، حلت البوستات مكان الندوات والعلامات مكان المناقشات والاستطلاعات الافتراضية مكان الحقيقية. وللايك والريتويت أو «دسلايك»، ليحل السياسى الافتراضى مكانه فى عالم تختفى فيه المشاعر الطبيعية، لتحل مكانها القوالب الجاهزة. وبعض السياسيين ظهروا واختفوا على شاشات العالم الافتراضى. وحلت التويتات مكان الخطابات المطولة. فى عالم تبدو فيه التكنولوجيا سابقة للبشر يلهثون وراءها، وهم يبتسمون ويتبادلون الدهشة بصور وفيديوهات افتراضية.