يقول كتاب "التجربة الدينية بين الوحدة والتنوع" لـ توفيق بن عامر، إن مفھوم التجربة الدينیة المراد تناوله فى فصول ھذا الكتاب يتمثل فى تفاعل الفرد والمجموعة عبر التاريخ مع الظاھرة الدينیة ذات المرجعیة الواحدة سواء على صعید الرؤية والتمثل أو التعاطى والممارسة أو الاستلھام والإبداع أو الفكر والنظر.
كما تسعى ھذه المقاربة التركیز على ظاھرة التنوع فى تلك التجربة بالرغم من انتسابھا إلى مرجعیة واحدة ھى بمثابة المستند العقائدى المشترك أو النواة الجامعة الموحدة.
ولا يتعلق غرضنا من ھذه الفصول بالحديث عن ظاھرة التنوع فى التجارب الدينیة ذات المرجعیات المختلفة وذلك لأن تلك الظاھرة تعتبر حقیقة بديھیة فضلاً عن كونھا أمرًا باديًا للعیان لا يرتاب فیه اثنان ولا يحتاج الباحث فى رصده إلى كبیر عناء أو عمق نظر. فاختلاف المرجعیات من شأنه وطبیعته أن يفرز التعدد والتنوع فى التجارب الدينیة لما تنبنى علیه تلك التجارب من اختلاف فى النظر إلى المقدس وفى أسالیب التفاعل معه وغب المنظومات العقائدية التى تستند إلیھا والتى تشكل رؤيتھا للإنسان وللكون ولما وراء الوجود. علاوة على ما يكتنف تلك التجارب من ملابسات تاريخیة وحضارية وما يعتورھا من طوارئ الزمان والمكان.
لكن الطريف وغیر السائد فى الثقافة الدينیة ھو التنوع فى التجارب الدينیة ذات المرجعیة الواحدة. وھو تنوع غالبا ما يراد طمسه أو تجاھله وحتى إدانته فى سبیل إثبات الوحدة وحرصا على التوقى من شبح الفرقة والاختلاف.
وذلك لأن الثقافة الدينیة السائدة لا ترى فى الاختلاف ثراء فكريا وثقافیا وحضاريا بقدر ما ترى فیه افتراقا وزيغا وانحرافا عن سواء السبیل وعن الصراط المستقیم تخشى مغبته ولا تحمد عقباه.
وغنى عن البیان ما تنبنى علیه تلك الثقافة من مصادرة مفادھا التسلیم بالحقیقة الواحدة المطلقة وعمادھا الاعتقاد بأن الحقیقة الدينیة لا تقبل التعدد والتنوع وھى مصادرة من شأنھا أن تفضى إلى الحجر على العقول وإلى ادعاء امتلاك الحقیقة من طرف واحد وذلك ھو الانغلاق والتعصب بعینه.
فقد غاب عن أصحاب ھذا التصور للحقیقة الدينیة أن الوحدة فى المرجعیة لا تعنى بالضرورة الوحدة فى التمثل وأن التعدد والتنوع فى ھذه لا يعنى التعدد والتنوع فى تلك. كما غاب عن تصورھم أن التنوع يمكن تحقیقه فى إطار الوحدة دون إجحاف بھا بل دعما وإغناء لأبعادھا. بینما لا يمكن لقسر العقول على التوحد إلا أن يفضى إلى تنمیط المعرفة مما لا تزداد به تلك الوحدة إلا ضمورا وفقرا وھشاشة فى مواجھة عوادى الزمان.
ومع ذلك فالتنوع فى التجربة الدينیة الإسلامیة حقیقة موضوعیة لا يمكن جحدھا أو إنكارھا. وھو تنوع اقتضته المقاربات الدينیة المختلفة بین عقلانیة ووجدانیة وتشريعیة وتعبدية وأخلاقیة وسلوكیة ومثالیة وواقعیة ونظرية وعملیة وفكرية وإبداعیة وسیاسیة واجتماعیة وغیر ذلك من المقاربات كما اقتضته الأوضاع الإقلیمیة والتاريخیة المختلفة مما ينھض دلیلا على أن التمثل للظاھرة الدينیة فى الإسلام لم يكن تمثلا مستقرا وجامدا ولا تمثلا نمطیا كما يراد تقديمه أحیانا على أنه الحقیقة الواحدة وإنما ھو تمثل متنوع التجلیات متغیر فى الزمان والمكان ورھین التعدد فى الرؤى والمقاربات الثقافیة المتراكمة عبر التاريخ.
وقد حاولنا فى ھذه الورقات عن نعرض على نظر القارئ النبیه بعض النماذج الممثلة لھذا التنوع فى الوحدة انتخبناھا من التراث الدينى لحضارة الإسلام وأولینا فیھا اھتماما خاصا بإسلام الوعاظ وإسلام الفقھاء وإسلام الصوفیة والإسلام الطرقى وانتقینا من خلالھا ألوانا من الخطاب منھا ما اعتمد العقل ومنھا ما استلھم الوجدان مع التركیز على كل ما تمیزت به تلك الخطابات من أبعاد فكرية وإبداعیة.