آن الأوان أن نقرر مصيرنا العربى المشترك فى إنشاء قوة عسكرية عربية، بيدنا لا بيد غيرنا، بحيث يمكنها حل المنازعات بين دولنا دون تدخل قوى غربية عادة ما تأتى على جناح أطماعها التوسعية لنهب ثرواتنا، والعبث بمقدرتنا، بينما نحن واقفون فى خانة المتفرج على شياطين الأنس والجن وهو يؤدون أدوارا تمثيلية غاية فى الإسفاف كلاعبى السيرك المحترفين، ولا يبقى علينا سوى التصفيق الحاد من باب الإعجاب بما فعلوه بنا فى ظهيرة يوم مفعم بالأسى والحسرة على ماض عريق كان هنا على ذات التراب المقدس.
ومن هنا لا بد أن نطرح مبدئيا سؤالا جوهريا: هل العرب قادرون فعلا على حماية أنفسهم من دون الحاجة إلى تدخلات خارجية؟
الإجابة: نعم بالطبع كما جاءت على لسان الرئيس عبد الفتاح السيسى فى أكثر من مناسبة قائلا: "نحن قادرون معا إذا توحدنا أن نحمى بلادنا العربية"، وشرح مرارا وتكرارا هذا الأمر بقوله: "لو أنه تم جمع الأسلحة العربية البرية والبحرية والجوية معا، فسوف تكون لدينا قدرات كبيرة ومع التنسيق والإدارة الجيدة يمكننا أن نحمى بلادنا من أى شرور، وسيكون وزننا أكبر بكثير، سواء توحدنا تحت اسم "الناتو العربى" أو "القوة العربية المشتركة"، وأظن أن أى مواطن عربى عاقل يفكر منذ عشرات السنين فى هذه المعادلة البسيطة، إذا كان حاصل جمع جميع أنواعه الأسلحة العربية من دبابات وصواريخ وطائرات وسفن، إضافة إلى الجنود والضباط أكبر بكثير مما يملكه أى عدو لهم، فلماذا هذه الفرقة والتناحر والانقسام؟!
ولم يكتف الزعيم السيسى بهذا التوضيح المهم فى حال العرب وأحوالهم، بل شخص الداء وجلب الدواء معا، قائلا قبل سنوات من الآن: "للموضوعية لا يمكن أن نلوم الأعداء، لأنهم يعملون على استمرار انقسامنا، سواء كانت انقسامات داخل كل دولة أو بين الدول العربية بعضها البعض، توحدنا يضر الأعداء، وبالتالى فالمنطقى أن يستمروا فى محاولاتهم، وأن يفشلوا أى محاولة للتوحد، وبالتالى فالسؤال المنطقى هو أين هو دورنا كعرب، وهل نحن نحاول إنهاء هذا الانقسام، أم أن بعضنا ينفذ بوعى أو من دون وعى أهداف الأعداء؟".
هذا هو جوهر كلام الرئيس فى هذا الصدد، فإذا توفرت الإرادة السياسية، ولو صدقت النوايا فى فهم ضرورة العمل العربى المشترك فى هذه اللحظة الفاصلة فى تاريخ أمتنا، وهو ما طالب به قبل أربعة أعوام فى كلمته أمام القمة العربية الـ26، فى شرم الشيخ السبت 28 مارس 2015، قائلا: "إن تفاقم الأوضاع الراهنة يحتاج إلى الثقة فى النفس فى كيفية الاستعداد لتلك المستجدات وتأسيس قوة عربية موحدة، مع احترام سيادة الدول فى الوقت ذاته"، وأوضح السيسى - وقتها أيضا - أن "الأمة العربية تواجه تحديات جسام لا تخفى على أحد، بما يستوجب منا جميعا دعم جامعتنا العربية وتحركاتها لتصبح القاطرة التى توحد كلمة الدول والشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، وتجعل لها من أسباب القوة ما يعضد من مكانـة أمتنا العربية على الساحة الدولية".
وهب إلى القول الفصل فى ذلك: "نحن على الاستعداد الكامل لبذل كافـة الجهود لإنجاح فعاليات الدورة السادسة والعشريـن من القمة العربية"، مشيرا إلى أن هناك تحديات تواجه هوية الأمة واستقرارها، وتجلب معها تحديا آخر، هو التصدى للإرهاب والترويع والفكر المتطرف الذى يهدم كيان الدول"، مؤكدا فى الوقت ذاته، إن "الإرهاب يستغل القصور لدى بعض الدول من أجل تحقيق مآربه، وإعلان الحرب على الشعوب"، مشددا على ضرورة صد محاولات التدخل الخارجى فى شؤون الدول العربية، ومؤكدا أن هذا "حقا" للشعوب العربية فى الدفاع عن أمنها.
لكن للأسف الشديد لا توجد إرادة سياسية لدى بعض الحكومات العربية فى التوحد خصوصا فى المجال العسكرى، وهنا نتذكر أن مصر طرحت قبل سنوات قليلة - على لسان رئيسها فى القمة 26 عام 2015 - فكرة إنشاء قوة عربية مشتركة، تستطيع أن تتدخل لمواجهة وردع أى تدخلات أو عدوان على أى دولة عربية، بدليل أن هذه الفكرة تعثرت بسبب رفض حكومات عربية، بعضها أغرق الفكرة فى التفاصيل ومن الذى يقود ومن الذى يمول، وبعضها حقق بقصد أو من دون قصد رغبة أطراف أجنبية فى عرقلة هذه الفكرة، حتى لا تخرج إلى النور، وبدلا من أن تتوحد القوات العربية المشتركة لردع الأعداء، فوجئنا بأن هذه القوات منهمكة فى حروب أهلية أو مناطقية أو طائفية.
واليوم يأتى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ليطرح على حلفائه من العرب الفكرة ذاتها فى ثوب جديد لا يختلف كثيرا عن الطرح المصرى قبل أربعة سنوات، والغريب فى الأمر أن هنالك من تروق لها تلك المطالب الأمريكية فى وقت لا يتوقف فيه ترامب عن قولته الشهيرة: "ادفع لتبقى".. وربما لا يعى هؤلاء أن هذا هو المبدأ الأساسى الذى يستند إليه الرئيس الأمريكى فى كل تفاعلاته مع قضايا الشرق الأوسط، فالرجل لا يألو جهدا ولا يفوّت فرصة سانحة دون الحديث عن الدفع مقابل الخدمات، ودائما يذكر قادة دول الخليج بأنهم باقون بفضل أمريكا، مطالبا إياهم بدفع الأموال وفى هذا المقام يقول ترامب: "دفعنا 7 تريليونات دولار خلال 18 عاما فى الشرق الأوسط وعلى الدول الثرية دفع مقابل ذلك"، مضيفا: أن "هناك دول لن تبقى لأسبوع واحد دون حمايتنا، عليهم دفع ثمن لذلك"، فى إشارة إلى دول الخليج الغنية.
هنالك من يصف سياسة ترامب الخارجية بأنها تسير وفق عقلية التاجر، بل وحتى تقديم خدمات عسكرية مقابل المال، كما جاء فى مقال سابق لـ"إيشان ثارور"، الكاتب فى جريدة "واشنطن بوست"، والذى يقول فحواه: "إن الطريقة التجارية التى تسيطر على ذهن ترامب غالبا ما تقوده للحكم على الأمور، فقد كرر أكثر من مرة ضرورة مساهمة الدول العربية مثل السعودية وتعويض الولايات المتحدة عن بقاء قواتها فى سوريا، وكأن القوات الأمريكية "مرتزقة" للاستئجار.
وبصفة عامة فإن خطط ترامب هذه لسحب المليارات من الخزائن الخليجية ليست وليدة الأشهر والسنوات الماضية، وإنما تعود إلى 30 ثلاثين عاما خلت، ففى حوار أجرته معه المذيعة الأمريكية الشهيرة "أوبرا وينفري"، عام 1988، يقول ترامب: "سأجعل حلفاءنا يدفعون ما عليهم من حصص، إنهم يعيشون كالملوك، أفقر شخص فى الكويت يعيش كالملوك ومع ذلك لا يدفعون، نحن نوفر لهم إمكانية بيع نفطهم لماذا لا يدفعون لنا 25 فى المائة مما يجنونه؟"، وأيضا خلال حملته الانتخابية فى عام 2016، قال ترامب: "دول الخليج لا تملك سوى المال سأجعلهم يدفعون، نحن مدينون بـ19 تريليون دولار لن ندفعها نحن، هم سيدفعون".
إذن تأتى دعوة ترامب الآن لإنشاء قوة عربية مشتركة ليس لمصحلة العرب بالطبع، ولكنها تأتى فى إطار تحمل تبعات أفكاره ومصالحه التى تتطلب تصعيد وتيرة مطالباته الابتزازية التى أطلقها منذ تسلمه السلطة قبل ما يقرب من ثلاث سنوات، وهو ما يجعل العرب يفكرون جديا الآن فى إنشاء تلك القوة بإرادتهم الحرة دون أى تأثير خارجى، ليس بهدف الحرب على الإرهاب فحسب، بل من أجل تجفيف منابع تمويل ودعم الإرهابيين الذين يستغلهم الغرب، وعلى رأسه الولايات الأمريكية التى بين الحين والآخر تأتى لابتزاز المنطقة بدعوى محاربتهم تنظيمات داعش والنصرة وغيرهما، وهم فى ذات الوقت يمولونهم بأموال عربية بطريقة غير مباشرة.
ومن هنا يبدو لى الآن أن خطوة تشكيل قوة عربية مشتركة أصبحت ضرورة حتمية فى هذه اللحظات الحرجة من تاريخ الأمة العربية، خاصة أن التحالفات العسكرية أو الحربية ضد عدو أو أعداء آخرين، أمر اعتادته الدول والقبائل والعشائر منذ بدء التاريخ، والتاريخ البعيد والقريب يزخر بأمثلة لأحلاف شهيرة، مثل حلف دول المحور التى كانت تضم ألمانيا النازية وإيطاليا واليابان، وحلف دول التحالف مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة فى الحرب العالمية الثانية، ومثل الأحلاف التى تشكلت بعد الحرب مثل "حلف وارسو" الذى يضم الدول الاشتراكية وحلف الأطلسى أو الناتو الذى يضم المعسكر الرأسمالى.
وكذلك الحال مع الدول العربية، والتى مرت تاريخياً بتعاون وتحالفات عسكرية مشتركة فى القرن الماضى، سواء فى عام 1948 وعام 1967 وقد يكون آخرها فى عام 1973، ولعل الوقت كان مناسبا للغاية فى القمة العربية الـ 26 عام 2015، التى انعقدت فى شرم الشيخ، حيث تم وقتها إقرار تشكيل قوة عربية مشتركة قوامها 40 ألف جندى، لمواجهة أى عدوان على أى دولة أو دول عربية، وهو أمر قد يكون مطلوباً بعد التشرذم والخلافات العربية - العربية، بل وشبه نجاح المخطط الأميركى فى فرض مشروعها "الشرق الأوسط الجديد"، الذى يتمثل فى تفتيت الدول العربية إلى دويلات عرقية وطائفية واثنية، بهدف إضعافها ونهب ثرواتها، ومن أجل تفوق إسرائيل فى المنطقة.
وظنى أنه إذا كان هذا المشروع جاداً فله متطلبات، منها تجاوز الدول العربية لخلافاتها التى قد تصل إلى حد العداء والتناحر، كما يجب أن يكون هذا التحالف للمصلحة المشتركة، والدفاع عن الشعوب ومقدراتها، والابتعاد عن الأجندات الإقليمية والغربية، ومن ضمن متطلبات نجاح واستمرار التحالفات العسكرية، هو اعتماد دول التحالف على شعوبها وتقوية جبهاتها الداخلية، من خلال إطلاق الحريات وإقامة أنظمة ديموقراطية عادلة، وتنمية وصناعة ونتاج اقتصادى عربى تكاملى، مثل السوق العربية المشتركة، والاكتفاء الذاتى وتحقيق رخاء الشعوب، ومكافحة التخلف والفساد والإرهاب، والسماح بشرعية الأحزاب السياسية على أسس وطنية قوية تسمح بالتعددية.
ولعل السلاح الحقيقى الذى يجب أن تعتمد عليه الدول فى تحقيق تلك الوحدة لضمان متانة القوة العربية المشتركة، هو شعوبها ووحدة مكوناتها الاجتماعية، وهى الكفيلة بنجاح التحالف العسكرى، فأسطورة التفوق الإسرائيلى مثلاً كسرتها الشعوب عدة مرات، مثل الشعب الفلسطينى وقوى المقاومة فى الحرب على غزة، وكذلك كسره الشعب اللبنانى مرتين، مرة عندما شكلت القوى السياسية جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية "جمول"، عام 1982، والتى جعلت إسرائيل تنسحب تحت وطأة المقاومة، ومرة أخرى تلقت ضربات موجعة عام 2006 كسرت هيبتها، فما بالنا إذا تعاونت الدول بقواها العسكرية وبقواها السياسية وشعوبها، من أجل الدفاع عن مصالح الأمة وصناعة مستقبلها بيدها لا بيد غيرها.
وأعتقد أن أمرا كهذا بالتأكيد لا يدعو للحرب، لأنها مدمرة للشعوب ومنجزاتها، والأولوية دائما للسلم والحوار، فالسلم قيمة بشرية كبرى تتيح للشعوب استخدام ثرواتها فى البناء والتنمية والتقدم، بدلاً من استنزافها فى التسلح والحروب، لكن كل ذلك يصبح مشروطا بتحقيقى العدالة الدولية فى ما يتعلق بالقضية الفلسطينية وقضايا سوريا وليبيا وتحسين الأوضاع فى العراق، بحيث تقرر تلك الشعوب مصائرها بإراته الحرة، عندئذ فقط يمكن للعرب أن يتعاونوا مع المجتمع الدولى فى إقرار سلام عادل يسود هذه المنطقة التى تعد الآن الأكثر توترا فى العالم.. أليس ذلك هو المنطقى قبل تشكيل قوة عربية مشتركة بدعوة من ترامب أو غيره من قوى الغرب التى لا تزال تتلاعب بمقدراتنا؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة