محمد الدسوقى رشدى

بركة زرقاء اليمامة

الخميس، 03 يناير 2019 12:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
اللهم لا تجعلنا مثل قوم زرقاء اليمامة، الذين سخروا منها ثم دمّروا العين التى طالما كانت حارسًا ونذيرًا..
 
ولم تجنِ زرقاء اليمامة من بصيرتها سوى السخرية، ولا يرى المبصرون أسفل أقدامهم مثلما ترى عين زرقاء اليمامة.
 
وكل ما أتذكره الآن أنها كانت تملأ بيتنا صخبًا، بضحكة هنا وصرخة هناك.
 
أنت ناسينى ليه يابا الحاج؟! تسأل جدى فى تحدٍّ للرجل الذى تخفت الأصوات فى حضرته، ويجيب هو فى هدوء يكسر حدة صوته وقسوة نظرته حتى ظننت أن سرًا بينهما أخطر مما تكشفه الأيام.
 
تمر وتلقى سؤالها ما بين أيام وأخرى، وتلقى الإجابة الهادئة نفسها: حاضر، السماح، ملعونة مشاغل الدنيا.
 
كنت صغيرًا ولا أعرف معنى «ست بركة».
 
كل ما أراه أمام عينى سيدة وشاحها دائمًا السواد، تتدلى خصلة من شعرها، تنافس سواد جلبابها وتنتصر على سواد ليلة كاحلة غاب قمرها.
 
كلامها أقل مما تبقى من كتاكيت أغلقت عليهم أمى كرتونة فى عز الحر، وغفلت عنهم لقلة خبرتها، لكن من قال إن الكلام بعدده.
 
تمر فى الشوارع وتخترق ما بين طوبتين وضعتا وفق مسافة محدّدة حتى نتفادى مشكلات ما بعد إحراز الأهداف، وتُحدّق بواحد فينا وتمشى أو تخبره قائلة: «حسرة عليك يا ابنى، أيامك كلها شقا».
 
نضحك ونضحك، ثم تمر السنوات لأتذكر المشهد وأنا أرى زميل ملعب الحارة وهو يدور فى ساقية شقاء الدنيا مسؤولًا عن والدة وثلاث بنات بعد رحيل والده فجأة.
 
أبحث فى خزان الذكريات عن نبوءة لها قد أصابتنى، أعود إلى حيث ملعب الحارة ومرورها الخافت لأتذكر أى شىء، مشهد من مستقبلى، صورة لخاتمتى.. فلا أجد منها سوى نظرة تعلوها ابتسامة ولا تذكر أذنى لها حديثًا سوى مصمصة شفاه.
 
ألمح جدى بجوار منزلها، وقد حمل بين يديه حقيبة، تبدو من ملامحها أنها وارد محل بقالة، تمسح بيدها على كتفه، ماتغيبش عن عينى تانى يا حاج، خلّى بالك منى، ربنا يخلّى باله منك.
 
يحكى الناس عنها حواديت مخيفة، يقول أحدهم، إن موجة خطفت ولدها فى بطن النيل خطفت عقلها أيضًا، ويقول آخر إنها شهدت عينًا منيرة فى ظلمة ليل يناير الممطر، وهى تسعى بين كراكيب منزلها لإشعال النار، ويقول جدى إنها «ست بركة» بينها وبين الرب عمار، وبتشوف اللى جاى، وأنا أصدق جدى، لأن لكلمته القديمة دليلًا حاضرًا.
 
فى سطور ما من دفتر الذكريات القديمة عبارة تقول «إن السيدة ذات خصلة الشعر السوداء، أخبرتنى، وهى تعبر الطريق ذات مرة: هتعيش وحيد وتموت وحيد حتى لو كنت بين ألوف، وفى كل وش هتدور على وش أبوك ومش هتلاقى، ربك خلق الوش واحد والحظ واحد، مسكين يا ولدى مافيش دكان بيبيع طعم الفرح حتى لو ملكت الدنيا، اللى راح راح، وكل اللى جاى لك راح معاه، واللى جاى لك بواقى من على الوش».
 






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة