على الرغم من تنوع موضوعات القرآن الكريم وتعددها، فإنه شديد الترابط والتناسب والانسجام، حيث يعرضها كلها بنَظم متنوع ومتميز، وربطٍ محكم بين الألفاظ والمعانى. والذى يمعن النظر فى آيات المواريث، يدرك أنها ليست آيات لتقسيم أنصبة الوارثين فقط، ولكنها فوق ذلك تحمل إعجازًا تشريعيًّا بديعًا، يضاف إلى الإعجاز العام الذى هو سمة كتاب الله العزيز، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فآيات المواريث كلما تأملت فيها وجدتها كأنها تحمل ردودًا على المزاعم التى يريد بها أصحابها فى زماننا الخروج على أحكام المواريث، بدعوى إنصاف النساء! ولو أنهم كرسوا جهدهم لدراسة علم أصول الفقه مثلًا، لأدركوا بسهولة ويسر أن الحكم الشرعى لأمر من الأمور قد يأتى على نسق أو أكثر من طرق الدلالة المباشرة أو غير المباشرة، وربما يكتفى بذكره مرة أو مرتين، ففرضية الوضوء مثلًا دل عليها قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}، فطريق الفرضية هنا فى أمر يتعلق بالصلاة التى هى الركن الأول من أركان الإسلام العملية، جاء بطريق فعل الأمر الدال على الوجوب، فمن المعلوم أن فعل الأمر حيثما ورد فى نصوص الشرع، فإنه يدل على الوجوب، ما لم تكن هناك قرينة صارفة إلى غير الوجوب، وهو فى آية الوضوء كذلك، حيث لا قرينة تصرفه عن هذا الوجوب.
وهو الطريق نفسه الذى استفيد منه فرضية الصلاة والزكاة، حيث فعل الأمر الدال على الوجوب فى قول الله سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، كما أن الصلاة طُلبت بأسلوب آخر، وهو التعبير بالكتابة التى تعنى الفرضية فى قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا}، أى فرضًا مؤقتًا بوقت معين، بالإضافة إلى أنها طُلبت بطريق الجزاء على التفريط فى قول الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}، فالويل لا يكون إلا بترك أمر مفروض.
أما دلالة فرضية الحج، فجاءت فى قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، حيث (لام) الملكية والاختصاص فى قوله (لله)، وهى كافية للدلالة على كون الحج دَينًا على المستطيع يجب أن يؤديه لله، وهو الطريق نفسه الذى استفيد منه وجوب قضاء الدَّين فى قول الله عز وجل: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}.
ويلاحظ أن الدلالة على الفرائض السابقة جاءت بطرق غير صريحة، حيث احتاجت إلى توجيه لبيان إفادتها الوجوب، وهناك أحكام شرعية تستفاد بالدلالة المباشرة، كقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}، وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ.. }، وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ.. }، وغير ذلك من آيات.
وبالنظر فى آيات المواريث، نجد أن الدلالة على حكمها جاءت بطرق شتى وأساليب متنوعة؛ فتارة تأتى بطريقة غير مباشرة كما فى قول الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ.. }، فالوصية فى أصلها ليست ملزمة، وإنما هى للنصح والإرشاد والترغيب فى الموصى به، ولكن دلالتها على الوجوب هنا استفيدت من قول الله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فلما كانت الوصية من الله لخلقه بترك سبل المعصية، كانت دالة على أن الوصية حين تكون من الله تكون للوجوب، وليس لمجرد الاستحباب، حيث لا يعقل أن يقول قائل إن ترك سبل الشيطان مستحب فقط!
وتارة تأتى الفرضية بدلالة (لام الملكية والاختصاص) فى أكثر من موضع عند ذكر أنصبة الورثة، كما فى قول الله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ}، وتارة نرى الدلالة على نصيب الإخوة أو الأخوات لأم بأسلوب جديد، يظهر فى قول الله تعالى: {فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِى الثُّلُثِ}، فالشركة تعنى الملكية فيما يشتركون فيه، وهذا يدل على أن استحقاقه مفروض، وتارة يستفاد الوجوب بدلالة الجزاء، وذلك فى قول الله تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}، فلا يُستحق هذا العذاب المهين إلا بترك أمر مفروض.
ولم تكتفِ الآيات بهذه الطرق غير المباشرة الدالة على الوجوب حتمًا، بل زيادة فى حسم الوجوب جاءت باللفظ الصريح الدال عليه، وذلك فى قول الله تعالى: {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}، وقوله عز وجل: {نَصِيبًا مَّفْرُوضًا}.
وهذا التنوع فى طرق الدلالة على الوجوب وفرضية الأنصبة المذكورة للوارثين، لا نجده فى أى فريضة أخرى من الفرائض التى جاءت بها شريعة الإسلام، وفى ذلك دلالة واضحة على أن الآيات لم تأتِ للدلالة على فرضية تقسيم الميراث على النحو الذى حملته فقط، وإنما أرادت أن تغلق الباب أمام أى محاولة لإعادة النظر فيما ورد من أنصبة مستحقة لكل وارث، وكأنها تقول إن هذا التقسيم على النحو المذكور نهائى ولازم لا يتغير بتغير الأزمنة ولا الأمكنة ولا أحوال الناس، وينطبق ذلك على استحقاق الذكر مثل حظ الأنثيين فى حالات محددة، وهى وجود البنت مع أخيها، وبنت الابن مع أخيها أو ابن عمها، والأخت الشقيقة مع أخيها الشقيق، والأخت لأب مع مساويها.
وتجدر الإشارة إلى ملمح قلما ينظر إليه أصحاب هذه المزاعم الباطلة، وهو أن اختلاف الرجال والنساء فى المستحق لكل منهما، وأن أحدهما قد يزيد أو يتساوى مع الآخر، ليست الذكورة والأنوثة هى المعيار المعتمد فى هذا الاختلاف، وإنما اعتبارات أخرى كالقرب والبعد من الميت، والأعباء المالية التى يتحملها الوارث، ونرى هذا الملمح فى قول الله تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا}؛ حيث يلاحظ أن الآية لم تقل: (للرجال والنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون)، مع أن النظم القرآنى مبنى على الإيجاز، وكأن الآية ترد على دعاة التسوية بأن نصيب الرجال غير نصيب النساء، وأنها فى الوقت نفسه لم تميز الرجال على النساء، مما يعنى أن نصيب الرجال لا يُشترط أن يكون مساويًا لنصيب النساء، ولا يُشترط فى الوقت نفسه أن يزيد نصيب الرجل على المرأة، ولا أن يزيد نصيبها عليه؛ فنصيب الرجل غير نصيب المرأة، وهو فى هذه الآية مجهول يشمل التساوى بينهما، وزيادة الرجل على المرأة، وكذا زيادة المرأة على الرجل، والضابط المحدد لزيادة أحدهما على الآخر يأتى من اعتبارات أخرى لا علاقة لها بالنوع.
وعليه، فالآية نفسها- من وجهة نظرى- من أبلغ الدلالات على بطلان دعوى المساواة بين الرجال والنساء فى المواريث، تلك الدعوى التى تهدم منظومة المواريث من أساسها، فضلًا عن أنها لا يمكن أن تنتظم كقاعدة عقلية تحقق عدالة أو إنصافًا، إلا فى أفهام موهومة منفصلة عن الواقع، ولا تجلب إلا ظلمًا للرجال والنساء فى آن واحد، وبخاصة النساء اللائى يزعمون إنصافهن بهذه التسوية، كما سبق بيانه فى المقالات السابقة.