يظل مشروع الكشف عن فيروس سى والسمنة والسكر ضمن «100 مليون صحة» واحدا من أكثر الخطوات التى تمت مؤخرا تحقيقا لنتائج، وخلال الأسابيع الماضية شهدنا استمرار الحملة بإصرار داخل محطات المترو، وفى المدن والقرى المختلفة بالمحافظات. ومن دون تغير وباستخدام تكنولوجيا وربط إلكترونى وتبادل للبيانات بين الجهات المختلفة.
مع الوقت تراجع الزحام، ورأيت بنفسى أعضاء الحملة من الأطباء ينادون على رواد محطات المترو لإجراء الكشف، ومن شهادات أعداد كبيرة ممن أجروا التحليل فإن نسبة الدقة فى اكتشاف الفيروس عالية، وبالفعل مئات وربما آلاف اكتشفوا إصابتهم بالصدفة وتم توجيههم إلى مراكز العلاج لتلقى العلاج مجانا، من خلال معهد الكبد أو مراكز منتشرة فى الجمهورية، التى تستقبل أعدادا كبيرة ويتم التعامل معهم بطريقة متحضرة، وبالرغم من الزحام فإن المئات حصلوا على العلاج وتمت متابعتهم.
لقد كنا شهودا على مرحلة اكتساح المرض لمئات الآلاف المصريين خلال التسعينيات ووفاة آلاف منهم سنويا، وارتفاع تكاليف العلاج بشكل يفوق قدرات الفقراء بل وحتى أفراد الطبقة الوسطى، وكان المحظوظ هو من يجد فرصة للعلاج بالخارج، ورحل آلاف المرضى ممن لم يجدوا العلاج، كما فقد الآلاف الآخرون وظائفهم بالخارج بسبب «عار الفيروس».
كان فيروس الكبد الوبائى أسطورة فى التسعينيات، وكانت التقارير تصنف مصر على أنها الأعلى فى نسبة الإصابة، وذهبت بعض التقديرات إلى أن أكثر من 10 - 15٪ من المصريين مصابون بالفيروس اللعين. وذهبت بعض التقديرات إلى أن 10 ملايين ضربت أكبادهم الفيروسات. وفى يوليو 2011 نشرت مجلة «نيتشر ميدل إيست» العلمية، أن مصر صاحبة المعدل الأعلى لانتشار فيروس سى فى العالم، وقالت إن متوسط التقديرات العالمية يُشير إلى أن واحدا من بين 7 أشخاص مصابين بالفيروس، وواحد من بين كل عشرة مصابين إصابته مزمنة، كانت الإحصائيات مرعبة والعجز ظاهر، والوفيات هى الأعلى، بين الشباب والكهول على حد سواء. كان «فيروس سى» عارا وخطرا يهدد الأمن القومى.
وقبل أربع سنوات أطلق الرئيس برنامج علاج «فيروس سى»، وتلقى مئات الآلاف العلاج مجانا، فى وقت كانت تكاليف نفس العلاج تصل إلى مئات الآلاف فى دول عربية وأوروبية، إطلاق البرنامج بدا نوعا من الخيال، لكنه استمر بإصرار، وهو ما أنقذ آلاف الأرواح، صحيح أن اكتشاف السوفالدى كان مقدمة لمواجهة حاسمة مع المرض الوبائى، لكن برنامج العلاج تم بناء على تفاوض مع الشركات المنتجة، وحصلت مصر على الدواء وقدمته مجانا، وهو ما ساهم فى خفض نسبة الإصابة.
ويكفى للحكم على هذه التجربة مراجعة شهادات كثيرة لمرضى اكتشفوا إصابتهم بالصدفة وتلقوا العلاج، بشكل طبيعى ومن دون الحاجة إلى إجراءات معقدة او انتظار قرار علاج، ومراجعة شهادات نفس المنظمات الدولية التى أعلنت من قبل أن مصر الأعلى فى نسبة الإصابة، وبشهادات منظمة الصحة العالمية ومنظمات دولية كثيرة فقد حققت مصر نجاحا كبيرا، بل إنها تحولت إلى أحد مراكز علاج الفيروس على مستوى العالم، وتحولت التجربة المصرية إلى درس فى التفاوض وتوفير الدواء بأقل من واحد على عشرة من ثمنه العالمى. ووصفت مدير عام منظمة الصحة العالمية، مارجريت تشان عام 2016 تجربة مصر فى مكافحة الفيروس بـ«الرائدة»، وتوقع الدكتور جوتفريد هيرنيشال، مدير البرنامج العالمى لمكافحة التهاب الكبد الوبائى، أن تقضى مصر على فيروس التهاب الكبد الوبائى «سى» بحلول عام 2030، مع دول مثل البرازيل وألمانيا واليابان وأيسلندا وهولندا وأستراليا.
وتم تطوير البرنامج ليشمل مع الفيروس، السمنة والسكر والضغط، وهى أمراض تمثل خطرا على الفقراء ممن لم يكونوا يجدون طريقة للتعرف على أمراضهم وحالتهم الصحية، ولم تكن الفكرة فقط فى إطلاق حملة علاج فيروس «سى»، لكن للكشف والعلاج، بشكل سرى ومن دون ضجة، والإصرار والاستمرار فى الحملة بنفس الكفاءة، مع الأخذ فى الاعتبار ان هذا البرنامج تكلف عدة مليارات أنفقت فى مكانها.
والبرنامج يوفر قاعدة معلومات لأول مرة لأغلبية المصريين ونسبة الإصابة، وتوفير العلاج، وهو ما يعنى أن توفر الإرادة يمكن أن يسهل كثيرا تطوير المنظومة الصحية لتكون أكثر كفاءة وتقدما، بما يعالج أوجه الخلل.
وزيرة الصحة الدكتورة هالة زايد وفريق الإشراف على برنامج «100 مليون صحة» يستحقون الإشادة، على طريقة تنفيذ البرنامج الذى يجرى بقرار رئاسى، فقد تم التنفيذ من خلال كوادر شابة بوزارة الصحة.
نحن أمام تجربة ناجحة من كل الزوايا، التفاوض والعلاج والبرنامج الطبى المناسب والسريع، ويمكن فى حال دراسة هذا النموذج أن نمتلك تجربة يمكن تعميمها وتطبيقها مع كل الأمراض الخطيرة، وأيضا فى بناء المنظومة الصحية بما يخرجنا من دوائر التعثر، ومن خلال استيعاب هذا الدرس وتعميمه فيما يتعلق بإعادة تنظيم قطاع الصحة، تجربة ناجحة فى المؤسسات الصحية من وحدات صحية ومستشفيات، لأن إنجاح برنامج بهذه الضخامة، يعنى القدرة على تعميمها لتطوير المنظومة الصحية.