السترات الصفراء صداع فى رأس ماكرون والدولة الفرنسية، من كان يصدق أن فرنسا بلد الحريات والثورة الفرنسية وحامية حمى الحقوق السياسية والاجتماعية تمر بأقسى اختبار خضعت له الدول العربية والإسلامية، مظاهرات واحتجاجات واسعة، الغضب يسيطر على مئات الآلاف من الطبقات المتوسطة والفقيرة فيخرجون على ماكرون وسياساته التى تنحاز للأغنياء وأصحاب الثروات وتفرض مزيدا من الضرائب على أصحاب الدخول الأقل، ويشاهد العالم أجمع الصور التى توضح هذا الغضب الأعمى للغاضبين وهم يحطمون ويحرقون ويشتبكون مع أفراد الشرطة وكذا الشرطة الفرنسية وهى تطلق عليهم الغازات المسيلة للدموع والمياه غير النظيفة وتضربهم بالهراوات ثم تعتقل المئات منهم!
ماكرون وسياساته الاقتصادية البعيدة عن النهج الاشتراكى الذى عرفت به فرنسا، يكاد يقوض المجتمع الفرنسى الذى ازدهر بفعل السياسات الحمائية من تأمين صحى ومعاشات تقاعد معقولة وضمان اجتماعى، وما يريده ماكرون من تحرير أسعار الخدمات وفتح المجال أمام تعزيز طبقة الأكثر غنى مقابل سقوط شريحة كبيرة من الطبقة المتوسطة تحت مستوى الفقر والحاجة، كما أن سياساته الأمنية تضع جميع المكتسبات التاريخية لفرنسا على المحك.
من كان يصدق أن الشرطة الفرنسية ستكون فى هذا الموقف الصعب، بأن تسحل مجموعة من المتظاهرين الغاضبين وتضربهم بالهراوات وتفتح عليهم خراطيم المياه الكبريتية والغازات المسيلة للدموع، كما تعتقل الآلاف منهم؟ وماكرون مسكين فهو بين نارين، إما أن يتحمل الفوضى ونتائجها أو أن يستخدم القانون لكبح غضب الغاضبين، ومن ثم سيقع فيما كان يلوم عليه الدول العربية عندما اختارت أن تحافظ على أمنها واستقرارها فى مواجهة الفوضى ودعاتها.
ماكرون عندما سئل فى القاهرة خلال زيارته الأخيرة، عن موقفه من سحل واعتقال المتظاهرين، قال إن التعامل العنيف مع هؤلاء المحتجين الغاضبين والمخربين يتم ليس لأنهم حاولوا التعبير عن أفكارهم ومواقفهم السياسية، ولكنهم لأنهم اشتبكوا مع الشرطة واعتدوا على الممتلكات العامة والخاصة، وأنهم جميعا سيحاكمون بالقانون، سواء من أطلق سراحهم على ذمة الدعاوى المرفوعة عليهم أو الذين مازالوا قيد الاعتقال أو التوقيف بحسب المنطوق الماكرونى، لأنه لا تسامح مع من يريدون تخريب المنشآت والمصالح العامة أو الاعتداء على الممتلكات الخاصة.
والله كلام جميل ومنطقى وموزون يا عم ماكرون، أمال أخبار حقوق الإنسان إيه؟ أخبار الحرص على الحريات وفى مقدمتها حرية الرأى والتعبير إيه؟ أخبار الانحياز الوردى الدائم لفرنسا مع هؤلاء المحتجين الغاضبين فى البلاد الأخرى إيه؟ أخبار ربط المساعدات الفرنسية وبروتوكولولات التعاون والتنمية مع البلدان الأخرى بمراعاة حقوق الإنسان وفق «الباترون الغربى» إيه؟ وكيف لا تراعى باريس وهى عاصمة الحريات هذا الباترون الغربى رغم اختزاله الحقوق والحريات فى حرية الغضب وحرية التدمير دون مساءلة وحرية التظاهر دون تصريح ودون التفات لحريات الآخرين؟.
ماكرون ويا للغرابة، اتهم مجموعة من المتطرفين بالاندساس وسط المتظاهرين والمحتجين العاديين أصحاب المطالب الاقتصادية والاجتماعية، وأنهم من أشعلوا الحرائق وحطموا المنشآت وواجهات المحال الشهيرة ونهبوا الممتلكات الخاصة وحرضوا على الاشتباك مع الشرطة واعتدوا عليها بالفعل، إذن وحسب الرواية الماكرونية، هناك متظاهرون شرفاء ومحتجون أبرياء، وهناك أيضا متطرفون مسؤولون عن كل الجرائم التى حدثت وتحدث، وأن الدولة الفرنسية تحاكم هؤلاء المتطرفين وفق القانون ولن تتساهل معهم.
جميل يا عم ماكرون، ولكن ماذا لو تدخل لدى سيادتك الرئيس ترامب ليطلب منك العفو عن هؤلاء الذين تصفهم بالمخربين والمتطرفين وتحملهم المسؤولية عما يحدث فى فرنسا؟ وماذا لو أرسلت لك الصديقة المستشارة أنجيلا ميركل قائمة تضم عدة أسماء منهم وتطلب منك إطلاق سراحهم ومراجعة الاتهامات الموجهة ضدهم؟ هل سيكون لديك رد بالسلب على طلبات ترامب أو ميركل، أم أن الأمور ستسير فى القنوات السرية لأجهزة الاستخبارات ومكاتب التنسيق المشتركة؟ ولكن ماذا ستقول ساعتها لمن يسألك عن مصير المتطرفين المعتقلين على ذمة قضايا الشغب والتخريب؟ وبم تفسر ساعتها التوجه الفرنسى الذى يقدم الحفاظ على أمن واستقرار الدولة على ما سواها من حقوق وحريات بحكم أن الحريات والحقوق لم تكن ولن تكون مطلقة؟