ليس أجمل من أن نبدأ عام 2019 بالحب، فالحب هو مطلب أساسي عند الرجال والنساء على حد سواء، فلا يوجد وصف محدد له، فهو شعور جميل يبادله الشخص تجاه من يحب، وهو في ذات الوقت يفجر في الرجل والمرأة مجموعة من القدرات الإيجابية، كما أنه يؤثر إيجابا على مجريات الحياة والتصرفات الشخصية والاجتماعية والعملية، ولعل المرحلة التي يمر بها الرجل العاشق قد تعد من أهم مراحل الحياة الخاصة به، لأنه يبدأ بخوض تجربة جديدة من نوعها، قد تؤثر في كثير من الأحيان على مجريات حياته، ألا و هي مرحلة الحب، و اختيار شريكة الدرب.
لأجل ذلك كله فقد وضع "أحمد الشهاوي" دستوره الخاص في فنون العشق وتبعاته، عبر ستة كتب بدأها منذ عام 1992 بداية بـ كتاب العشق، ثم من بعده أصدر: (أحوال العاشق، الوصايا في عشق النساء الكتاب الأول، الوصايا في عشق النساء الكتاب الثاني، أنا من أهوى 600 طريق إلى العشق)، والشهاوي لمن لايعرفه تربى في بيت صوفي كان له بصمته الخاصة على شعره.
فقد تأثر بقراءاته لـ "ابن عربي والسهروردي"، وغيرهما من المتصوفة الكبار، فكانت التجربة الصوفية أو الرافد الصوفي محور ارتكاز أصيل فى تكوين شخصيته الإبداعية.. فقده لأمه ربما جعله عاشقاً للمرأة مقدسا لها ،لم يتبع مدرسة أو مذهبا بل مزاجه وخريطته الخاصة به، كانت بعض دواوينه مثار جدل كبير وانتقاد من رجال الدين والعلماء.
وبما أنني واحد من شهود في حضرة الشهاوي شاعرا وصحفيا من طراز رفيع، فقد كان شاغلي الأكبر - منذ أن أن تعرفت عليه واقتربت منه أكثر كزميل بكلية الآداب قسم الصحافة بسوهاج - البحث عن دوافعه الخفية في الاتجاه نحو إلى هذا الطريق الصوفي الباطني، وغلب على ظني بالطبع أن هذه الدوافع تؤول إلى أمر باطني، وربما كان ذلك جراء إحساس الفقد الذي سكنه منذ الطفولة وأدركه في مرحلة الصبا مع بواكير كتاباته الشعرية عندما رحلت أمه السيدة (نوال عيسى) عن الوجود العيني.
والواقع أنها "نوال عيسى" تظل حاضرة في الوجود الباطني في كل كتاباته وإن توارت في بعضها قليلا، لكنها تظل تتأرجح دوما ما بين الغياب والحضور من منطقة الأمومة إلى منطقة المعشوقة بوصفها (الأنثى الكلية)، وريثة أساطير الخلق الي تعرف عليها "الشهاوي" في رحلة بحثه الدؤوب عن مكنونات العشق على طريقة المتصوفة، وقد كانت الأم بالفعل هى واهبة الحياة للعالم الأرضي الذي عاشه في غربة دائمة، ومع ذلك تظل واصلة هذا العالم بالسماوات العلى.
وأحب أن أوضح هنا: إنه عندما غلبني الظن بترجيح إحساس الشهاوي بالفقد، أتى معه استحضار يتزامن مع ذلك الفقد لواحد من الآباء العشاق الذين عاش مغترباً في داخلهم تماما كأحمد، وهو "ابن حزم الأندلسي" الذي فقد محبوبته الأولى وهو مايزال دون العشرين من عمره، فقد غابت بالموت حقا، لكنها ظلت حاضرة في إطار قانون العشق الذي تحول إلى مدونة مبكرة في (طوق الحمامة في الألفة والآلاف).
ولست مغالياً إذا قلت: بإن "الشهاوي" هو الوريث الأكبر لسلالة العشاق جميعا في الغرب والشرق على حد سواء، بدءا من أفلاطون و(الإيروس) ووصولاً إلى أوفيد في (فن الهوى) الذي قدم ثلاث ركائز لهذا الفن: الأول: يعلم طالب الهوى كيف يستولي على قلب خليلته، والثاني: يعلمه كيف يحتفظ بحبها إلى أبعد مدى ممكن، أما الثالث: فيتوجّه بنصائحه للمرأة ليعلمها كيف تأسر الرجل وتخضعه لحبها، ومن هنا يصبح التوارد بين "الشهاوي" و"أوفيد" إنما يتحقق في الركيزة الثالثة، كما تدلنا على ذلك معظم كتاباته في فنون العشق.
وبرغم هذا الميراث الضخم في الغرب والشرق الذي استلهمه في كتاباته؛ إلا أنه انحاز بوصاياه للعشاق والمحبين إلى ميراثه المقدس الذي استمده بالضرورة من القرآن والسنة من ناحية، وميراثه العرفاني من ناحية أخرى، كما عبر عن ذلك في كتبه الستة، وأبرزها بالطبع ديوانه الشعري "الوصايا في عشق النساء".
ولا يداخلنا الشك في أنه نثر تجاربه وخبرته الكتابية الناضجة في ثنايا هذا الميراث الضخم مستمدا روح النصوص القديمة وإعادة صهرها في بوتقة عقله ثم إعادة إنتاجها بشكل جديد ومغاير، ولم يكن المنتج نوعاً من إعادة الإنتاج، وإنما تجده دائما مزيجاً مفتوحاً على أعماق الأنثوية في كل تجلياتها، أو الأنثى الأولى التي غابت مع الفجر الأول وظلت حاضرة آناء الليل وأطراف النهار، لاتغادر ذاكرته مهما ابتعدت الأيام والسنين بينهما.
وبوصف العشق قدره الذي لا خلاص منه، توجه بلغة خطاب عاطفية مشحونة بالشجن قائلا لكل أنثى: "أوصيك بالمحبة، واتباع العشق، احرصي على الإنصات إلى صوت ديك قلبك الذي يؤذن بالوصال في تمام الوقت"، ويذهب في غيه أيضا ليوثق الموصي وصاياه بمقولات آبائه وشيوخه السالكين في العشق، ولذا فإنه يقول: "ولا بد أن أذكّر بما قاله شيخي محيي الدين بن عربي: أدين بدين الحب أني توجهت ركائبه، فالحب ديني وإيماني.
في رحلة الشهاوي المحملة بنصائح جمة لكلا العاشقين (الرجل – المرأة) سوف تلمح على الفور استدعاءات الآباء والشيوخ المورثين حتى بلغوا ثمانية وثلاثين أباً وشيخاً، منهم الفلاسفة أمثال: أرسطو وابن سينا، وكثير منهم من الواصلين والسالكين في العرفانية أمثال: (الخواص وابن عطاء الله السكندري والحلاج وابن الفارض ويحيى بن معاذ والنفري ورابعة)، ويزاحمهم في هذه الكثرة شعراء العشق في الموروث العربي أمثال: (قيس وجميل وكثير والعباس بن الأحنف وابن زيدون).
وقد قامت وصايا الشهاوي في عشق النساء في قوانينها التنفيذية على ركيزتين: الأولى: ممارسة الحب الروحي والجسدي معا، والثانية: التحذير من الفراق والهجران، ذلك أن الوصال دستور العشاق، وإذا كانت الروح ركيزة الوصال، والوصول إلى الأعالي، فإن الجسد على حد قوله هو الفردوس الأرضي: "خبئي جسدكِ، وتدرجي في كشفه، فالمحب يؤسر بالحجب لأن الجسد فردوس لا تناله النفوس بسهولة ولا يُعرف إلا بالمراتب ".
حين تتابع القراءة عبر نصوصه الشعرية الفاتنة كما في (الوصايا في عشق النساء) فلن تستطيع التوقّف عند وصية بعينها، أو عند دفقة محددة فكل نهاية لوصية هي بداية لوصية أخرى، وكل الوصايا استحضرت المعشوقة والعاشق وصحبتهما محتكمة إلى سلطتها، إلى أفق ملائكي بالغ النعومة والشفافية، وفي هذا الأفق احتكمت إلى قانون العشق بوصفه قدره الذي لا اختيار فيه، فهو قدر له توابعه ولواحقه في الفروض، والواجبات، وله أركانه التي تكاد تمزج الحب البشري بالحب الإلهي كما في قوله: "اذكريه كثيراً بقلبك ولسانك، فالمحبة تسقى بماء الذكر، وإن لم تفعلي ذلك فقد خسرت خسراناً مبينا".
وانطلاقا من قاعدة أن الحب يعمل على تهذيب الرجل في كثير من الأحيان، و يبدل حالة الفراغ العاطفية التي يعيشها، بأخرى تجعله يشعر بالمسؤولية تجاه شخص آخر، قدم في كتابه "أنا من أهوى: 600 طريق إلى العشق"، وهو لون من (كتابة نثر- شعرية) تقع في تلك المنطقة البينيّة الفاصلة جماليًا وثقافيًا بين جنسي الشعر والنثر العربيين عبر رصد تجربة صوفية يمكن الرهان على الكثير مما أفرزته من جماليات ومقولات تحاول رأب المسافة بين "التصوّف بوصفه سلوكًا إنسانيًا" و"التجربة الصوفية بوصفها تجربةً جماليةً لغويةً"، تعتمد طاقة المجاز ومفردات البلاغة العربية من رموز وتشبيهات واستعارات وكنايات، وغيرها.
ولأن الشهاوي يدرك خطورة تلك اللعبة الجمالية، تجده قد بنى نصّه هذا على روح "شعرية النثر الفنّي" القادم من أعماق مدوّنة النثر العربي ومرويّاته المتعددة، تلك التي ترتكن إلى بلاغة "التوحيدي والنفري والحلاج ومحيي الدين بن عربي عبرهذا التصور"، وهنا جاء الكتاب على نحو ستة فصول هي: "آية الكهرمان، نثر الماس، شذور الذهب، سورة اللؤلؤ،بهجة الياقوت، زمرد الجنة"، ويسعى الكتاب في مجمله إلى التعامل مع مقولة "العشق" بوصفه كائنا حيا استمده من صورة الإنسان الكامل عند "ابن عربي"، فمثلا من هنا تعتمد تسميات الفصول على استدعاء طاقة الأحجار الكريمة من "كهرمان وماس وذهب ولؤلؤ وياقوت وزمرد"، بكل ما تستدعيه ألوانها "الصفراء والحمراء والخضراء الزرقاء"، وبكل ما تشكّله جماليا من استعارات لونية تُلهب مخيّلة القارئ وتحثه على ممارسة التأويل الحر.
تبدو لي تجربة الشهاوي في الكتابة عن العشق تماما كما تبدو لـ "الدكتور شاكر عبد الحميد" في أنها تنتمي إلى عالم الحب بمعناه الكوني والكلي، حيث نري الحب وقد صار كائنا حيا من خلال هذه الكتابة ويصبح الحب كائنا متمثلا في إنسان وفق قول "ابن عربي"، ومرتبطا بعوالم الليل والنهار والأشجار والطيور، كما نقف على حضور قوي لروح المتصوفة وقناعاتهم، خاصة "الحلاج وابن عربي والنفري"، ونقف أيضا على حضور قوي للحالات المرتبطة بالتصوف مثل: "الحيرة والمجاهدة والألفة والاغتراب والأسطورة"، ونوع من البحث عن المرأة ككل وليس كمجرد أنثي أو حبيبة أو عشيقة، وإنما هي موجودة بحالاتها وأنماطها أختا وصديقة وأما وعشيقة وابنة باعتبارها رمز كوني أساسي ومحوري للحياة كما نجدها في كل حالاتها برية ورقيقة ومراوغة وحنونة ومتوحشة ورقيقة أحيانا.
وتبدو لي أيضا كتابته عن العشق والهوى وفنون الحب والعلاقات الإنسانية التي لا تفصل بين الغرام كمعنى جميل وبين الجسد بروح العاشق وحماسة من أضناه الهوى، وليس ذلك فحسب وإنما يقف ويشرح لماذا تصد المرأة، ولماذا تقبل ومتى يصيبها الملل من معشوقها، ومتى تعطيه بلا حساب ليؤكد لك في النهاية أن هذا النوع من الكتابة حتما يحتاجه كل رجل عاشق وكل امرأة محبة فهو يمثل دستور غرام لا ينضب.
ويبقى أن أشير في النهاية إلى أهمية طرح موضوع الحب في كتابه الأخير "كن عاشقا"، والذي سيصدر خلال أيام، حيث يقول": "نحن نعيش بالحُب، لأنه الأقدر على مداواة النفوس وعلاجها، إذ يرتقي بالحياة، والنفس العاشقة هي نفسٌ قدسيةٌ، تصل بصاحبها إلى مرتبة (الإنسان الكامل).
فمن لا يحب - بحسب الشهاوي - لا يحيا حياةً طبيعيةً، وأنت بدون العشق ناقصٌ ومعتلٌّ ومحذُوفٌ من جُملة الحياة، ومريضٌ فارقه نبضُ قلبه؛ بينما في العشق يعيش المرء طويلا، حيث يتحصَّن بالأحلام والأمل والتوهج، ولو كان الحُب متمكِّنًا من رُوح المرء فإنه لا يعرف الفُقدان أو الخُسران، ولا يدركه تلفٌ من أي نوع، ولست ممن يؤمنون بأن الحب يحمل داخله بذرة الكره، لأن من يحب لا يكره".
أحمد الشهاوي في هذا الكتاب يؤكد أن "العشق هو فلسفة الفطرة التي يكون عليها المُحبُّ والمحبُوب؛ وهو أساسُ الفضائل وأصلُها؛ لأنَّ النفسَ فُطِرت على العشق، والهوى يغلبُ عليها، فالعشق ديانةٌ يؤمنُ بها من في جوفه قلبٌ ينطقُ، لافتًا إلى ألا حُب يحيا تحت مظلة شرطٍ أو طلبٍ أو غرَضٍ؛ لأننا عندما نعشقُ، يكون اليوم الذي نحياه بألفِ يومٍ مما كُنَّا عليه قبل العشق، لأن عُمر الإنسان يُقاسُ في رأيي بما (قبل الحُب) ، وبما (بعد الحُب)".
أخيرا : ما أحوجنا نحن بني البشر للكتابة عن الحب على الطريقة الشهاوية العاشقة في عصرنا الحالي الذي يتسم بالبغض والكراهية والحقد .. أليس معى بعض الحق في ذلك؟!.